موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || حرب أهلية ولكن لا يشعرون!
اسم المقالة : حرب أهلية ولكن لا يشعرون!
كاتب المقالة : المفكرة

من أسوأ الأمور التي من الممكن أن يمر بها شعب أو أشقاء الوطن أن يجدوا أنفسهم في أتون حرب أهلية داخلية اجتمعت كل مسبباتها وتكاملت كل عناصرها، والشعب لا يدري ولا يشعر أنه قد أصبح في قلب مأساة درامية لا تبقي ولا تذر، أفنت شعوبًا، وأبادت أممًا، وأخرجت حضارات من ذاكرة التاريخ، إنها مأساة الحرب الأهلية، والتي أصبح المصريون في مرماها من حيث لا يشعرون.

الحرب الأهلية هي: الحرب الداخلية التي تندلع في بلد ما التي يكون أطرافها جماعات مختلفة من السكان، كل فرد فيها يرى فيمن يخالفه وفيمن يريد أن يبقى على الحياد خائنًا لا يمكن التعايش معه، ولا العمل معه في نفس التقسيم الترابي، يكون الهدف منها السيطرة على مقاليد الأمور وممارسة السيادة، أما أسباب الحرب فقد تكون سياسية أو طبقية أو دينية أو عرقية أو إقليمية أو مزيجًا من هذه العوامل، وتتصف الحروب الأهلية بالضراوة والعنف الشديد، وبالنتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمرة على المدى القريب، والمؤثرة بعمق على المدى البعيد؛ لأنها تشمل مناطق آهلة بالسكان وتكون خاضعة لهجمات متقطعة وغير منتظرة، وتفرق بين الأهل والجيران فتشل الحياة الاقتصادية وتمزق النسيج الاجتماعي، وتحفر بعمق وألم في أساسات استقرار المجتمعات، ويحتاج المجتمع إلى عدة عقود من الزمن لإعادة  البناء والتوازن والوئام، وقد تستغرق الأمر عدة أجيال لمداواة جراح الحروب الأهلية.

"مصر كانت تتجه نحو حرب أهلية" كان هذا هو المبرر الذي ساقه الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع للإطاحة بالرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو الماضي، إلا أنه وبعد مضي أكثر من ثلاثة شهور، كما قالت وكالة "بلومبرج" الإخبارية الأمريكية: إن ما فعله جعل مصر أقرب إلى الحرب الأهلية من ذي قبل، فاستمرار العنف وتساقط المزيد من الضحايا في ظل حالة من الطوارئ وحظر التجوال لا يشبه شيئًا مما يقول السيسي أنه يريده البلاد: المصالحة، والنمو الاقتصادي، والعودة لحكومة مدنية منتخبة. بل إن الحرب الأهلية أصبحت تهديدًا حقيقيًّا اليوم أكثر مما كانت عليه عندما أطاح الجيش بحكم مرسي. 

الحرب الأهلية عادة ما تندلع في البلاد التي تحمل إثنية عرقية أو دينية أو طائفية في تركيبة مجتمعاتها ونسيجها الوطني عادة ما يكون مليئًا بالثقوب المتوارثة عبر مشاهد مأساوية كثيرة عبر التاريخ، وكان خلو مصر من هذه الإثنية المقيتة من أقوى مخدرات الوعي السياسي والنخبوي القائم حاليًا في مصر، فلا أحد يريد أن يصدق أن مصر تشهد فعلًا حربًا أهلية، والنخب العلمانية التي كانت تحذر منها ـ أي الحرب الأهلية ـ أيام اضطرابات الإعلان الدستوري في 2012، هي نفسها اليوم التي تقوم بدفن رأسها في الرمال خوفًا من بطش العسكري، وتردد عبارات معلبة جاهزة من عينة "مصر لا تعرف الحروب الأهلية"، "الحرب الأهلية في مصر خرافة"، وهكذا كما شاركت النخب الليبرالية والعلمانية في تزييف وعي الجماهير أيام مبارك، ها هي تواصل لعبتها الآثمة وتضلل المصريين أن ما حدث يوم 30 يونيو ثورة وليست انقلابًا.

إن ما تشهده مصر منذ  الإطاحة بمرسي بالانقلاب العسكري هو حال من حرب أهلية فعلية، وإن كانت منخفضة التكاليف والخسائر، بمقاييس الحروب الأهلية التي عادة يروح ضحيتها عشرات وربما مئات الآلاف من المواطنين، فشروط الاجتماع المشترك بين المصريين، قد جرى تخريبها على نحوٍ دؤوب منذ ثورة 25 يناير على يد من يريد إفشال هذه الثورة والعودة بالأوضاع في مصر لمربع مبارك مرة أخرى، وقد ساهمت الخيارات الخاطئة والقرارات المتعجلة في تعميق الهوة وزيادة حدة الاستقطاب الشعبي، وبعد وصول مرسي وجماعة "الإخوان" إلى سدة الحكم أصبح حديث الفتنة وإفساد ذات البين حديثًا يوميًّا معتادًا بين أنصار الثورة وأنصار الاستبداد، وتبلور الفصام الشعبي بعد الانقلاب العسكري، والآن هناك كتلتان من السكان – بغض النظر عن حديث الأغلبية والأقلية - غير راغبتين تمامًا في العيش المشترك، أو على الأقل الطرف الذي يحتكر القوة ويمتلك أدواتها ممثل في سلطة الانقلاب، وفقدت الدولة المصرية في هذا السياق دورها الضامن لاستمرار واستقرار العلاقات الاجتماعية، ثم جاءت دعوة وزير الدفاع المصريين إلى التظاهر دعمًا للجيش في مواجهة قطاع معتبر من المواطنين المصريين، وهو القطاع الرافض للانقلاب في هذه الحال، لتتحول مؤسسات الدولة بهذه الدعوة من سلطة تنظم العلاقات الاجتماعية وتحمي مساراتها إلى مجرد سلطة باطشة تسعى في تأسيس الاستبداد والديكتاتورية. إنها حرب أهلية مكتملة الأركان إذًا، لا فرق إن كان ضحاياها بالعشرات أو بالمئات أو بالألوف، ولا فرق إن كانت ستستمر أسابيع أو سنين.

مصر وإن كانت تخلو من عوامل الإثنية المثيرة للحروب الأهلية والاقتتال الداخلي إلا أنها تزخر بالعديد من العوامل التي تجعل من مبادرات القضاء عليها أمرًا في غاية الصعوبة، من أبرز هذه العوامل والمقبلات لاستمرار الاقتتال الداخلي: ارتفاع نسبة الشباب بين المصريين حيث تزيد عن 30 % من إجمالي السكان، ويمثل هذا العنصر أهمية كبيرة في الحروب الأهلية بحسب دراسة أعدتها مؤسسة أمريكية لدراسة السكان، وترى هذه الدراسة أن ارتفاع نسبة الشباب يوفر للأطراف المتصارعة عناصر مندفعة وقابلة للتعبئة، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وارتفاع معدلات البطالة، ولعل ظاهرة البلطجة وانتشار الانفلات الأمني يرجع في المقام الأول لوجود شرائح كبيرة من الشباب الفتي بلا عمل. ومن العوامل أيضًا: الانقسام العمودي في المجتمع، وهو يختلف عن الانقسام الطبقي، فالعمودي يشمل كل شرائح المجتمع من أعلاها لأدناها، ويعتبر الأكاديمي الأمريكي "آرندت ليبهارت" الذي أطلق نموذج الديمقراطية التوافقية أن الانقسام العمودي هو الأخطر بين الانقسامات المجتمعية، كما هو الحال في المثال اللبناني، فإن ليبهارت يعتقد أن الانقسامات الثلاثية والرباعية تقلل من خطر الحروب الأهلية؛ لأن التحالفات التي يمكن أن تنشأ في ظلها تحدُّ من الاندفاع إلى الاقتتال. ومن العوامل أيضًا: طول المرحلة الانتقالية أو مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، فهذه المرحلة هي أخطر مراحل التطور السياسي التي تمر بها الدول الثورة. فدول الثورة تمر بثلاث مراحل وهي مرحلة السلطة المطلقة، ومرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، ومرحلة ترسيخ الديمقراطية. وقد أثبتت التجربة التاريخية أن أعلى نسبة من الحروب الأهلية تحدث في الدول التي تمر في المرحلة الانتقالية، وكلما طالت الفترات الانتقالية كلما تزايدت فرص اندلاع الحروب الأهلية. فالسلطة فارغة والمصالح متضاربة والقوى السياسية متصارعة والجميع يبحث عن موضع قدم في المشهد السياسي، ومن ثم تقوى أسباب الحروب الأهلية.

مصر اليوم إضافة للعوامل المذكورة تشهد تعزيزًا لاستمرار الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي، فكل الخطوات التصعيدية والعنف المفرط من جانب سلطة الانقلاب لم تثن عزائم معارضي الانقلاب، وكل الضغوط التي مورست بحق الرافضين للانقلاب العسكري باءت بالفشل بفضل صمود وبسالة الثوار الرافضين لعودة الحكم العسكري، وأصبحت حركة الثوار على الأرض هي العنصر الفاعل المؤثر وربما الوحيد في المشهد السياسي، فلا المبادرات ولا التصعيدات أفلحت في وقف هذه الثورة التي يجري بلورتها ميدانيًّا بشباب لا يعرفون الاتفاقات السرية والمبادرات التوافقية. وفي مقابل هذا الصمود الرائع يقف إصرار قائد الانقلاب على تمرير خارطته السياسية التي على ما يبدو أنه قد تعهد للعديد من الأطراف الداخلية والخارجية بإنفاذها مهما كانت التكلفة، لذلك نحن قد أصبحنا إزاء معادلة صفرية لا تحسم إلا بالاحتراب الداخلي. وإن كانت الحرب الأهلية هي الدافع لكل ما جرى منذ 3 يوليو حتى الآن؟ فلماذا إذا تتبارى سلطة الانقلاب ومؤيدوها من النخب العلمانية والليبرالية في تعزيز فرص هذه الحرب وتأجيج نيرانها؟ والأدهى من ذلك أنهم لا يشعرون أنهم قد أصبحوا في قلب لهيبها وفي قعر أتونها، والخروج منها يحتاج لمعجزة ربانية، أما مداواة آثارها فتحتاج لعقود، وربما احتاجت لذهاب أجيال بأكملها.

تاريخ الاضافة: 02/11/2013
طباعة