موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || الوصول في علم الأصول ( 1 )
اسم المقالة : الوصول في علم الأصول ( 1 )
كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر

الحمد لله العلي الكبير ، العليم البصير ، الحكيم الخبير ، العزيز القدير ، الذي جعل العلم دليلاً للوصول إلى معرفته فقال سبحانه (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ   لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ  وَمَثْوَاكُمْ) محمد : 19

 

وأنزل شريعته الغراء ، وجعل بنيانها القواعد العامة ، وأرشد عباده إلى مصادرها ومواردها ، وحثهم على ولوج سبلها ، وفضل العلماء على عباده العابدين ، وأصفيائه الزاهدين ، فقال وهو أصدق القائلين : (‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏) المجادلة : 11

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " أخرجه البخاري .

والقائل لحبر الأمة ابن عباس ك " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " ، وعلى آله الطبين الطاهرين ، وصحابته أولى العلم والعرفان ، الهادين المهديين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الباب الأول

مراحل نشأة علم الأصول :

أولا : لم يكن الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى الاجتهاد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينهم يرجعون إليه فيما يعرض من حوادث ، أو يشكل عليهم فهمه من القرآن الكريم.

ثانيا : انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فأخذ الصحابة رضي الله عنهم من بعده يستبطون الأحكام من مصادرها المعروفة لهم ، وهي : الكتاب والسنة ، والقياس عند الحاجة ، وكانوا يشددون النكير على من خالفهم فنشأ مصدر رابع وهو الاجماع ، ولم يكن الصحابة رضوان الله عليه ، بحاجة إلى قواعد يرجعون إليها في ذلك ، وذلك لإحاطتهم  وتمنكهم من اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم . كما أن مصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، جعلتهم لا حاجة لهم في البحث عن طرق الحديث الصحيح والعدالة وغير ذلك ،  وكذلك معرفتهم بأسباب النزول ، أكسبتهم معرفة بأسرار التشريع .

ثالثا : مضى التابعون بعد الصحابة على نهجهم ومنوالهم ، وكانت القواعد الأصولية التي يحتاج إليها المجتهد في استنباط الأحكام الفقهية حاضرة في أذهانهم ، فأغناهم ذلك عن الاشتغال بتدوينها .

رابعاً : بدء تدوين الأصول في أواخر القرن الثاني الهجري حيث أصبحت الحاجة ماسة إلى تدوين تلك القواعد حث اتسعت رفعة الدولة الإسلامية واختلط العرب بالعجم ، ففسد اللسان العربي ، كما بعد العهد بالرواة .

أول من دون علم الأصول :

قيل إن أول من دون في الأصول هو أبو يوسف صاحب أبوحنيفة ولكن لم يصلنا شيء ، وعليه فكان أول من وضع كتاب في الأصول هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله المتوفى بمصر سنة 204 هـ وسمى كتابه ( الرسالة ) حيث تكلم فيه عن القرآن ، وبيان السنة للقرآن ومنزلتها منه ، وعن الناسخ والمنسوخ ، وعن الاحتجاج بخبر الواحد ، والاجماع ، والقياس ، والاستحسان ، والاجتهاد ، وعلل الأحاديث .

طرق تدوين علم الأصول:

يوجد طريقتان للعلماء في تأليف وتدوين علم الأصول وهما :

الاولى : طريقة المتكلمين : وهؤلاء اهتموا بتقرير القواعد أولاً ، وإقامة الأدلة عليها مع الإكثار من الجدل فيها ، شأنهم في ذلك شأن علماء الكلام . مثل : كتاب البرهان للجويني ـ والمستصفي للغزاليَّ ـ والعمد لابن عبد الجبار ــ الحاصل للرازي ــ والإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

الثانية : طرية الحنفية : يعتمد أصحاب هذه الطريقة على الفروع الفقهية المنقولة عن أئمتهم في استنباط القاعدة الأصولية ، كما عنوا بتحقيقي الفروع الفقهية وتطبيقها على تلك القواعد ، ولذلك تجدهم إذا وجدوا القاعدة التي قرروها تتعارض مع بعض الفروع المقرة في المهب عمدوا إلى تعديلها بما لا يتعارض مع الفرع الفقهي . مثل : كتاب أصول الجصاص ــ أصول الفقة للدبوسي ــ كشف الأسرار علي اصول الامام فخر الاسلام علي بن محمد البزدوي ــ وكشف الأسرار لعبد العزيز البخاري ــ وكتاب المنار للنسفي.

الثالثة : الجمع بين الطريقتين :

وهؤلاء جمعوا ما بين طريقة المتكلمين والحنفية ، مثل : كتاب التنقيح لصدر الشريعة ــ وجمع الجوامع لتاج الدين السبكي ــ مسلم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور.

من فوائد تعلم علم الأصول :

أولا: القدرة على استنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية .

ثانيا : القدرة على المقارنة بين أدلة الأئمة المجتهدين حتى يطمئن المقلد إلى ما قلد من أحكام عن هؤلاء الأئمة.

ثالثا : العلم بقواعد الأصول التي بها يمكن استنباط الأحكام الفقهية للحوادث المتجددة التي لم يتعرض لها الأئمة السابقون ، وبذا تكون الشريعة الإسلامية غير جامدة أمام الأحداث.

تعريف أصول الفقه

لكلمة أصول الفقه اعتباران عند العلماء:

الاعتبار الأول: قبل أن تكون علماً على ذلك الفن المخصوص، وهي حينئذ مركب إضافي تتوقف معرفته على معرفة جزئية الذين هما (أصول ــ وفقه ).

الاعتبار الثاني: بعد جعله علماً على ذلك الفن المخصوص فأصبح لفظاً واحدأً

( مركب إضافي) وصار كل جزء منها بمنزلة الحرف من الكلمة المفردة.

الاعتبار الأول في التعريف:

معنى الأصل لغة:

الأصل مفرد أصول وهو في اللغة يطلق على معان متعددة. أقربها ما يبنى عليه غيره سواء كان البناء:

(أ) حسياً كبناء الحائط على الأساس.

(ب) أوعرفياً كبناء المجاز على الحقيقة.

(ج) أوعقلياً كبناء الحكم على الدليل.

فكل من الأساس، والحقيقة، والدليل أصل لأنه بنى عليه غيره، من الحائط والمجاز والحكم.

معنى الأصل اصطلاحاً:

الأصل في الاصطلاح له أربعة معان

(أ) الصورة المقيس عليها : كقول الخمر أصل لنبيذ ، على معنى أن الخمر مقيس عليها النبيذ في الحرمة ، وكقول التأفيف للوالدين أصل لضربهما يعنى في الحرمة

(ب) القاعدة المستمرة : كقول إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل أي على خلاف (القاعدة المستمرة)، وقول الأصل في المبتدأ الرفع.

(ج) الراجح : كقول الكتاب أصل بالنسبة للقياس أي (الرجح) . وقول الأصل في الكلام الحقيقة، أي (الراجح) لدى السامع الحقيقة لا المجاز عند عدم القرينة الصارفة إليه.

(د) الدليل : كقول الأصل في وجوب الزكاة قوله تعالى:(آتوا الزكاة)، أي (الدليل) على وجوبها.

معنى الفقة لغةً:

ورد في تعريف الفقه لغةً ثلاثة أقوال:

الأول: الفهم مطلقا سواء كان المفهوم دقيقا أم غيره، وسواء كان غرضا لمتكلم أم غيره والدليل قوله تعالى على لسان قوم شعيب (ما نفقه كثيراً مما تقول) وفي شأن الكفار ( فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) وقوله (وإن منن شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

الثاني: هو الفهم للأشياء الدقيقة فقط، فلا يصح أن تقول فهمت أن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا.

الثالث: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، فلا يسمى لغة فهم الطير فقهاً.

معنى الفقة اصطلاحاً:

هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

الاعتبار الثاني في التعريف:

تعريف أصول الفقه بناء على هذا الاعتبار:

هو معرفة دلائل الفقة إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.

شرح مفردات التعريف:

المعرفة: مطلق الإدراك الشامل للتصور والتصديق.

الدلائل: جمع دليل، وهو على ما رجُحَ من أقوال العلماء، ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب مطلقاً، ظناً أو قطعاً، فيكون شاملاً للأمارة كأخبار الآحاد، والقياس والاستصحاب وغير ذلك من الأدلة المختلف فيها والمتفق عليها.

معرفة الأدلة: التصديق بثبوت المحمول (موضوع القاعدة الأصولية) الذي هو حال من أحوال الدليل للموضوع الذي هو الدليل الإجمالي.

كأن يعرف أن الأمر الخالي عن القرينة الصارفة يفيد الوجوب، وأن النهي الخالي عن القرينة يفيد التحريم، وأن العام يقبل التخصيص، وأن المطلق يحمل على المقيد وأن الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها.

إجمالاً: يعرب حال من الأدلة، وحينئذ يكون المراد المعرفة التفصيلية للأدلة الإجمالية أي (الكلية) التي لم يلاحظ فيها دليل جزئي بخصوصه، كمطلق النهي، ومطلق الأمر.

وكيفية الاستفادة منها: أي معرفة دلائل الفقه، ومعرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدلائل، أي استباط الأحكام الشرعية منها. وهذا يتوقف على معرفة شرائط الاستدلال كتقديم النص وهو ما دل على معناه دلالة قطعية على الظاهر وهو ما دل على معناه دلالة ظنية ــ والمتواتر على الآحاد ـ وغير ذلك فلابد من معرفة تعارض الأدلة ومعرفة الأسباب التي تترجح بها بعض الأدلة على بعض.

وحال المستفيد: المستفيد هو طالب الحكم من الدليل والذي يطلب الحكم من الدليل هو المجتهد فيكون المستفيد هو المجتهد.

لماذا كانت هذه الثلاثة هي أصول الفقه

من المعروف أن الفقه مستفاد من الأدلة التفصيلية واستفادته منها تتوقف على أمور ثلاثة: (1) الأدلة الإجمالية .        (2) المرجحات .     (3) صفات المجتهد .

(1)الأدلة الإجمالية: فلأن الدليل التفصيلي إنما يستدل به على الحكم الذي أفاده بواسطة تركبه مع الدليل الإجمالي الذي هو كلي له، ذلك بأن يجهل الدليل التفصيلي موضوعاً في مقدمة صغرى محمولها الدليل الإجمالي ، ثم يجعل الدليل الإجمالي موضوعاً في مقدمة كبرى ومحمولها هذا الدليل الإجمالي والذي يكون معه القاعدة الأصولية فينتظم من ذلك قياس منتج للحكم مثال ذلك : إذا أردنا الاستدلال بقوله تعالى : (أقيموا الصلاة) على وجوب الصلاة . فنقول: أقيموا الصلاة أمر ، والأمر للوجوب حقيقة فينتج أقيموا الصلاة للوجوب حقيق.

(2) المرجحات: فلأن الأدلة الثابتة للأحكام ظنية. فهي قابلة للتعارض فلا يمكن استفادة تعيين ماهو الدليل للحكم الشرعي الذي يراد إثباته دون غيره. مثال ذلك:

كأن يدل دليل على وجوب النية في الوضوء . ويدل آخر على عدم وجوبها فيرجح المجتهد دليل الوجوب لأنه أحوط .

أو: يدل دليل على وجوب الوتر ، وآخر على سنيته وأحدهما نص والآخر ظاهر. فيكون الدليل هو الأول لترجحه بكون دلالته نصاً.

أو: كتقديم رواية صاحب الحادثة على غيرها. لأنه أعرف من الغير بها ، كترجيح رواية عائشة : ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا) على رواية ابن عباس : ( إنما الماء من الماء ).

(3) صفات المجتهد: فلأن الحث عن أحوال الأدلة هو من أجل التوصل إلى استنباط الأحكام من هذه الأدلة. والمستفيد للأحكام من الأدلة التفصيلية ـ هو المجتهد ولا يكون أهلاً لاستفادتها منها إلا إذا قامت به صفات الاجتهاد .

وللحديث بقية في السلسلة الأصولية

 

تاريخ الاضافة: 16/01/2013
طباعة