موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || لماذا يختار الأقباط الاستبداد؟
اسم المقالة : لماذا يختار الأقباط الاستبداد؟
كاتب المقالة : شريف عبد العزيز

الأحداث الكبرى عادة ما يصاحبها الكثير من التغيرات والتقلبات وردود الأفعال المتباينة، فالنوازل العامة تلعب دورَ نار الكير الذي ينفي الخبث ويكشف عن صدق المعنى وأصالة الجوهر، فهي كاشفة للحقائق والمخفيات تحت زخم الرفاهية والاستقرار، فمثلاً عندما وقعت أحداث سبتمبر سنة 2001، اكتشف المسلمون حجم العداء والتخطيط ضد العالم الإسلامي وحجم الكيد والتآمر الخفي والقائم قبل هذا الحدث بسنوات طويلة، ولما وقعت حرب البوسنة والهرسك ثم حرب الشيشان اكتشف المسلمون وجود الملايين من إخوانهم المسلمين في قلب أوروبا وهم لا يشعرون بهم، وهكذا مضت السنة القاضية بكشف النوازل وتمحيص الكبريات للحقائق والمخفيات.

الثورات العربية التي هبَّت رياحها بقوة منذ أكثر من عام على بلادنا وضربت عروش الطغيان في مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا قد حركت كثيرًا من سواكن الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية في هذه البلاد، ومن أبرز المشاهد التي استرعت الانتباه وتوقف عندها المراقبون والمتابعون بكثير من التأمل والتعجب هو التأييد الواسع والشامل من قبل الأقباط والنصارى في المنطقة العربية للأنظمة القديمة والدفاع المستميت عنها حتى النهاية، بل والوفاء لها بعد السقوط، وتوابع هذا المشهد الكنسي الأليم في مناصرة الاستبداد والطغاة ما زالت قائمة حتى الآن.

وقد كانت بدايات هذا المشهد عندما اندلعت الثورة المصرية حيث لم يشارك فيها سوى العشرات من الأقباط الموصوفين بالعلمانية أو الخروج على طاعة الكنيسة، رغم ضخامة عدد الثوار المصريين ونزولهم بالملايين إلى الميادين، فقد أصدر الراحل شنودة الثالث فرمانًا كنسيًّا بمنع النزول والاشتراك في الثورة، وليس هذا مستغربًا من شنودة فقد كان من أوثق حلفاء الطاغية مبارك وأشد أنصاره، وظل شنودة على وفائه لمبارك وبكى طويلاً يوم الإطاحة بمبارك وظل يتصل به تليفونيًّا ويطمئن على صحته باستمرار حتى رحيله، وقد أصيب مبارك باكتئاب شديد وانتحب بشدة لما وصله خبر هلاك شنودة، أما في سوريا فقد كان المشهد أكثر وضوحًا، فقد أعلن البطريرك بشارة الراعي رأس الكنيسة الكاثوليكية في لبنان عن تأييده الكامل لبشار الأسد في جرائمه المروعة بحق السوريين، وذهب إلى أبعد من ذلك، حيث ذهب للتحريض ضد الثورة السورية والتخويف منها، فقد قال لمحطة (فرنسا 24) أثناء وجوده بالعاصمة الفرنسية لحضور مؤتمر للأساقفة في سبتمبر الماضي: إنه ينبغي إمهال (الرئيس) بشار الأسد مهلة كافية يُجري فيها الإصلاحات السياسية التي وعد بها، وحذر من أن زيادة الضغط على النظام السوري الحالي قد تنتهي إلى وصول قوى متشددة للحكم والتأثير سلبًا على وضع "المسيحيين" بل وتوتير علاقة السنة بالشيعة. ولما كان لبنان مرآة عاكسة للتطورات السورية فإن مؤدى هذا إضعاف وضع "المسيحيين" اللبنانيين وزيادة الاحتقان القائم أصلاً بين سنة لبنان وشيعته، وهذا الكلام هو نفسه ما ردده بعد ذلك كارل لافروف وزير الخارجية الروسي، لتبرير الدعم الروسي المطلق لبشار الأسد في حين أكد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك جريجوريوس الثالث للصحافيين في شهر مارس الماضي بالعاصمة الإيطالية روما أن "الجيش السوري لا يتدخل إلا عندما يجب أن يتدخل"، ثم أخذت المخاوف القبطية قي النضوج شيئًا فشيئًا في مصر بدءًا من الانجرار لحالة الاستقطاب الطائفي التي حدثت منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية وعسكرة "نعم" و"لا" ثم الدخول في مشاغبات طائفية ثم فاجعة ماسبيرو والتي سقط فيها أكثر من 25 قبطيًّا بنيران الجيش، ثم الانكفاء والانزواء من المشهد السياسي في الانتخابات البرلمانية، ثم العودة المفاجئة وباحتشاد غير مسبوق في أي انتخابات مصرية، والوقوف صفًّا خلف مرشح الفلول والنظام القديم الفريق أحمد شفيق، وقد أحدث احتشادهم خلف شفيق وتوصيتهم الجماعي له لتحقيقه المركز الثاني في السباق ودخوله جولة الإعادة، وهو ما جعل الأقباط يكتشفون قيمة وأثر كتلتهم التصويتية، وأيضًا يكشفون عن نفسيتهم تجاه الثورة وانحيازهم للطغاة وحنينهم للنظام القديم.

قد يرى الكثيرون أن هذا الموقف القبطي والنصراني المشترك في مصر وسوريا ومن قبله في العراق يعتبر تجسيدًا للهواجس والمخاوف المشروعة من قبل الأقليات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي، مخاوفهم من وصول حكم إسلامي يطبق عليهم أحكام الشريعة وخاصة الجزية التي يعتبرها النصارى إهانة بالغة لهم، ولعل في سيناريو الأحداث بعد الثورة في مصر وتونس وليبيا ما يزكي هذه المخاوف رغم رسائل التطمين المتتابعة من جانب التيار الإسلامي بذراعيه الإخوانية والسلفية والتي تؤكد على عدم المساس بحقوق الأقباط، إلا إن المخاوف لا تنقطع أبدًا، في حين يرى فريق آخر أن ثمة علاقة تاريخية بين الطغيان السياسي والانحراف الديني، وتلك الثنائية المقيتة متجذرة في التاريخ الإنساني، منذ أن ضل أحبار اليهود وألبوا قياصرة الرومان على المسيح عليه السلام رغم إقرارهم بنبوته وطهارة أمه مريم عليها السلام، وقد انتقل فيروس هذه العلاقة الآثمة إلى الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى، وصار الباباوات والقساوسة والرهبان أكبر معضد ونصير لطغيان ملوك وأمراء أوروبا على الشعوب والرعية حتى ضج الأحرار من الطغيان الكنسي وثاروا ثورتهم الشهيرة التي انتهت بنبذ الدين ومعاداته وظهور منتج العلمانية، ولم تسلم الأمة الإسلامية من شرر هذه العلاقة فقد ظهرت هذه الثنائية في عهود الانحطاط هذا على الرغم من التحذير النبوي الشديد والوعيد الأكيد من الانحياز إلى الطغاة وكتم العلم أو التربح به، فقد ظهرت ثنائية القاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي والمعتصم العباسي سنة 223 هـ، والشيخ المنبجي والسلطان بيبرس الجاشكير سنة 705 هـ، وصولاً إلى الباقوري وعبد الناصر وطنطاوي ومبارك وحسون وبشار الأسد، فالتاريخ مليء بعشرات الشهود على ثنائية الطغيان السياسي والانحراف الديني، ومن هذا المنطلق أيد الأقباط مرشح النظام القديم أحمد شفيق، ولكن بعض المراقبين والمحللين للشأن المصري يرى أن تصويت الأقباط لشفيق ذو طابع سياسي محض، فهم بتكتلهم التصويتي خلف شفيق قد أرسلوا عدة رسائل سياسية لأطراف المشهد السياسي في مصر منها:

إظهار قوتهم الحقيقية وأثر كتلتهم التصويتية على تغيير المشهد الانتخابي مما سيدفع بأي طرف سياسي بما في ذلك الطرف الإسلامي باحترام هذه الكتلة ومراعاة متطلباتها ورغباتها خشية خسارتها، والمساومة بهذه الكتلة التصويتية الكبيرة (قرابة الثلاثة ملايين صوت).

ومنها بيان قدرتهم على الحشد والتنظيم والترتيب والتوجيه والاشتراك بفاعلية والارتفاع على التوجهات السياسية الذاتية للبعض دون الآخر.

ومنها اكتساب الثقة مرة أخرى بعد عزوفهم عن الحياة السياسية خلال العام الماضي بعد هزيمة الكنيسة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.

ومنها وربما أهمها التأكيد على المسار السياسي للبابا الراحل شنودة، فقد أرسى البابا الراحل نهجًا سياسيًّا مميزًا في التعامل مع الدولة المصرية قام على تكريس النفوذ القبطي والاستقلالية التامة للأقلية حتى بدا للعيان أن الكنيسة تحت قيادة شنودة كانت دولة فوق الدولة لا تخضع لقوانين أو رقابة حكومية من أي نوع، لذلك تكتل الأقباط خلف النظام الذي ساعدهم على الوصول لهذه المنزلة والمكانة المميزة من أجل الحفاظ عليها، وعدم انتظار مفاجآت أو تقلبات الصندوق الانتخابي الذي سيدفع غالبًا بالمرشح الإسلامي للرئاسة.

تاريخ الاضافة: 31/05/2012
طباعة