موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || حقيقة الكتاب المقدس ( 2)
اسم المقالة : حقيقة الكتاب المقدس ( 2)
كاتب المقالة : images/no-pic.gif

الكتاب المقدس وموقف كتبته من القول بعصمته
ومما يؤكد بطلان دعوى أن أسفار الكتاب المقدس وحي إلهي، معصومة من الخطأ، محفوظة من التحريف؛ أنها دعوى لا يقرها كتبة العهد الجديد أنفسهم؛ بل يعارضونها إيماءً وتصريحًا مقرين بخالص بشرية عملهم.
فها هو " لوقا " في مستهل إنجيله يصرح قائلا: "إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز "ثاوفيلس" لتعرف صحة الكلام الذي علمت به".
فـ " لوقا " يقرر هنا أنه واحد من كثيرين قاموا بنفس هذا العمل وهو تأليف قصة، وأن هذه القصة ما هي إلا مجموعة رسائل يبعث بها على التوالي إلى صديقه " ثاوفيلس"
ويقرر " لوقا " كذلك أنه هو وهم لم يكونوا معاينين للأحداث وأنه رأى لا عن وحي إلهي ولكن رأى من ذاته أن يؤلف أيضًا كالآخرين قصة.
ويقرر أنه تتبع كل شيء من الأول بتدقيق، والتتبع والتدقيق يدل على بشرية هذا العمل؛ لأن متقبل الوحي أو الإلهام لا يكون في تقبله لا تتبع ولا تدقيق؛ لأن التدقيق عمل العقل البشري الذي يخطئ ويصيب، فمعنى التدقيق: تحري الدقة، أي الاحتراس من الخطأ؛ وهو ما يدل على إمكانية الوقوع فيه.
ولا يتوافق التعبير " بالتدقيق " مع كتاب موحى به من الله تعالى؛ لأن الوحي لا يتطلب من صاحبه أي عمل لا في تلقيه ولا في أدائه وهو ما يصرح به كتابهم الذي يؤمنون به في كثير من المواضع: مرة على لسان " بلعام بن بعورا " في قوله: " لا أقدر أن أتجاوز قول الرب لأعمل خيرًا أو شرًا من نفسي، الذي يتكلمه الرب إياه أتكلم " سفر العدد. ومرة على لسان " إرمياء " في قوله: " كلمة الرب صارت لي للعار وللسخرية طول النهار؛ فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه؛ فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع " سفر إرميا. ومرة على لسان " عاموس" في قوله: " لست أنا نبيًا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راع وجاني جميز، فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل" سفر عاموس. وهو معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان" الشورى:52. وقوله: "لا تحرك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه" القيامة: 17:16وقوله: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين" الحاقه:47:44.
وكما استهل " لوقا " إنجيله بالتصريح ببشريته؛ ختم " يوحنا " إنجيله كذلك بنفس التصريح، يقول يوحنا: "هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق، وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع (أي: المسيح) إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة".
فـ" يوحنا " يقرر هنا أنه هو الذي يشهد لنفسه، وأنه هو الذي كتب هذا؛ ولا شك أن درجة الدقة في الكتابة هنا يحددها اعتراف الكاتب بأنه لا يظن أن العالم يسع الكتب المكتوبة، فهو يصرح بظنية شهادته، ولا معنى هنا لهذا التقرير من "يوحنا" في نهاية إنجيله إلا إن كان يريد التأكيد على بشرية عمله.
وكذلك الحال بالنسبة لـ "بولس" – والذي تنسب إليه كثير من أسفار الكتاب المقدس - فهو يصرح بأن ليس كل ما في الكتاب المقدس من وحي الله عندما يفرق فيما كتبه من الكتاب المقدس بين نصيحته الشخصية وبين أقوال الرب؛ فيقول مرة: " أقول لهم أنا لا الرب " الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ويقول أخرى: " فأوصيهم لا أنا بل الرب " السابق، وكذلك عندما يصرح بأنه يعبر عن رأيه الخاص في عدم تحبيذه زواج الأرملة عندما يقول: "ولكن إن مات رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تريد ......ولكنها أكثر غبطة إن لبثت هكذا بحسب رأيي" السابق، وعندما يقول:" وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيًا" السابق. على أن بولس عندما يقول إن لديه تفويضًا أو أوامر من الله أو على العكس ليس لديه ذلك فإن ذلك لا يعني بالضرورة أمرًا أو تفويضًا أوحي به من الله إليه، ولعله يعني فقط التعاليم التي أعطاها المسيح تلاميذه.
ثم كيف يكون الكتاب المقدس كله موحى به من الله تعالى إلى كتبته المعصومين وبه كثير من الخطابات الشخصية التي تتطرق إلى ما لا فائدة لنا فيه على الإطلاق كما في رسالة بولس الثانية إلى " تيموثاوس" والتي يقول فيها: "الرداء الذي تركته في ترواس عند كاربس أحضره متى جئت والكتب أيضًا ولا سيما الرقوق ....سلم على فريسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس، أراستس بقي في كورنثوس وأما تروفيمس فتركته في ميلتس مريضًا، بادر أن تجيء قبل الشتاء، يسلم عليك أفبولس وبوديس وليتس وكلافدية والأخوة جميعًا"؛ وكذلك رسالته إلى "فليمون" فهي عبارة عن مجرد خطاب شخصي؛ وكذلك رسالة " يوحنا الرسول " الثالثة فما هي إلا خطاب شخصي يبعث به إلى أحد أصدقائه ويقول له فيه:" أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحًا وصحيحًا كما أن نفسك ناجحة ....أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فمًا لفم، سلام لك، يسلم عليك الأحباء،سلم على الأحباء بأسمائهم "!!!.
وإذا كانت الأناجيل المعترف بها الآن في جل الكنائس المسيحية أربعة أناجيل؛ فكيف لنا أن نعتقد أن الله تعالى أراد أن يقص سيرة المسيح أربع مرات بشكل مختلف بل ومتناقض حتى في أهم الأمور؟!. وإذا كان وضع الأناجيل بعضها مع بعض ومقارنتها معًا يجعل كلا منها يكمل الصورة التي يرسمها الآخر ويوضحه أحيانًا فإنه وفي أكثر الأحيان يكشف عن مدى اختلافها وتناقضها مع بعضها.
ثم إن كل إنجيل إنما كتبه صاحبه لا لكي يكمل الأناجيل الأخرى أو يشرحها بشكل أفضل، وإنما كتبه لكي يغني عن الأناجيل الأخرى غناء كاملا؛ ومن ثم بشر كل منهم بإنجيله في مكان خاص؛ بل حرص بعضهم على ألا يبشر في موضع سبقه إليه غيره؛ وهو ما يصرح به "بولس" في قوله: "كنت محترصًا أن أبشر هكذا ليس حيث سمي المسيح لئلا أبني على أساس آخر" الرسالة إلى أهل رومية. . ومن ثم فتلك الصورة المتكاملة وذلك الوضوح الذي يتبدى أحيانًا من مقارنة الأناجيل مع بعضها إنما يأتي عفوًا وبغير قصد.

 
الكتاب المقدس وموقف المجمع
بل إن دعوى عصمة الكتاب المقدس من التحريف دعوى تقر ببطلانها أعلى الهيئات المسيحية في عالمنا المعاصر.
فها هو المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني (1962-1965م) يصف أسفار العهد القديم بالنقصان وباحتوائها على أمور باطلة وذلك في قوله عنها: "إن هذه الكتب رغم ما تحتويه من الناقص ومن الباطل (أو القديم) إلا أنها تحمل شهادات تربية إلهية". البند (15) في الفصل الرابع من دستور المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني (الوحي الإلهي).
غير أن المجمع لم يصغ أية تحفظات مثل هذه بالنسبة للأناجيل، بل على العكس فقد أعلن المجمع في نفس الدستور السابق في البندين (19،18) ما نصه: "لقد اعتبرت الكنيسة في كل مكان وفي كل زمان أن الأناجيل الأربعة هي من وضع الرسل، إن ما كرز به هؤلاء بأمر من المسيح قد نقلوه فيما بعد هم أنفسهم أو بعض من أحاط بهم من المعاونين مدونين إياه بوحي من الروح القدس ....إن الكنيسة المقدسة أمنا قد أصرت دومًا وتصر الآن على التأكيد أن الأناجيل المتعارف عليها هي من الكتب التاريخية من غير أن يساورها أي شك وأن هذه الأناجيل قد نقلت بصدق وأمانة ما قام به يسوع ابن الله (يقصدون المسيح عليه السلام) من أعمال، وما نشر من تعاليم طيلة حياته بين الناس" أ.هـ
ومن هذا المنطلق الكائل بمكيالين للعهدين القديم والجديد بلا أي أساس عقلي أونصي حذر المجمع من إعطاء أية قواعد للتمييز بين الخطأ والحقيقة في التوراة بدعوى أن الكنيسة لا تستطيع أن تتخذ قرارًا بصحة أو زيف المناهج العلمية بحيث تستطيع أن تحل مبدئيًا وبشكل عام مشكلة حقيقة الكتاب المقدس.
إلا أن مقصودنا هنا ليس الجدل في النظريات؛ وإنما مناقشة أمور ثابتة فعلا كعمر الإنسان على الأرض مثلا والذي يحدده سفر التكوين بما لا يقبل التأويل بـ37 أو38 قرنًا من الزمان مخالفًا بذلك أشد المعارف تأسّسًا في عصرنا الحديث.
إن تحذير الفاتيكان هنا من إعطاء أية قواعد للتمييز بين الخطأ والحقيقة في التوراة إنما يطوي في حقيقته خوفًا وتهربًا من إدراج العهد الجديد أيضًا تحت هذا المعيار، وخوفًا وتهربًا من كشف حجم أخطاء التوراة- فهي جزء من الأسفار المقدسة لدى النصارى أيضًا - ولا أهمية بالطبع لمثل هذا التحذير، ولا معنى لمثل هذا الحصر؛ لأن الكتاب المقدس – بعهديه - كأي بناء لا يمكن أن يقوم من جانب ويسقط من جانب آخر، وهو ما يؤكد عليه الكتاب المقدس نفسه على لسان المسيح عليه السلام في قوله: "لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوني لأنه هو كتب عني فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي". إنجيل يوحنا. . وكذلك في قوله عليه السلام كما يروى عنه انجيل متى: "لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل". . بل إن وحدة العهدين القديم والجديد هي عنوان البند(16) من الفصل الرابع من نفس دستور المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني "الوحي الإلهي".
إن هذه المواقف المتناقضة التي يتخذها علماء أهل الكتاب أمام ما به من أخطاء ومتناقضات تكشف بوضوح الأصل الإنساني لهذه الأخطاء، واستحالة إمكانية قبولها كجزء من وحي إلهي.
 
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم
( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)
البقرة:111، النمل:64

 

والله أسأل الهداية لنا ولهم أجمعين.


 

تاريخ الاضافة: 27/12/2010
طباعة