موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || مسائل للنساء (4) مبحث لبث الحائض في المسجد
اسم المقالة : مسائل للنساء (4) مبحث لبث الحائض في المسجد
كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر


مسائل للنســـــاء
( 4 )
لبث الحائض في المسجد
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوْذُ بِالْلَّهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مِنَ يَهْدِهِ الْلَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيا مُرْشِدَا ،
أَمْــا بَعْـــــدَ
من الإثم والعدوان في هذه الأيام أن نجد من يحل للمرأة الدخول في المسجد والجلوس فيه وهي حائض بحجة سماع الدروس والخطب والمواعظ وكذلك قراءة القرآن وهي حائض ومس المصحف وأنه لم تأت أحاديث صحيحة على المنع وكل الذي ورد في هذا الباب أحاديث ضعيفة ، وهذا الذي جعلني أكتب وأجمع أقوال أهل العلم الثقات في هذه المسألة وأدعو الله عز وجل أن يفتح به قلوبا غلفا وأن يكون هذا العمل خالصَا لوجهه وأن يتقبله مني وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
*****
فصل : ليس للحائض والجنب والنفساء اللبث في المسجد

1) قال الله تعالي : (وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)
ذهب جل أصحاب أهل التفسير ومنهم ابن كثير والقرطبي والشوكاني بأن الحائض والنفساء تمنع من اللبث في المسجد قياساً على الجنب ولأن الحائض والنفساء حدثها أغلظ من حدث الجنب فهي أولى بالمنع من اللبث في المسجد, وقد رخص لها بالمرور للحاجة قياساً على الجنب واستناداً لحديث السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ‏"‏ ‏.‏ فَقُلْتُ إِنِّي حَائِضٌ ‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ"‏) رواه الجماعة إلا البخارى.
*****
2) وهذا الحديث يدل على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة ولكنه يتوقف على تعليق الجار والمجرور، أعني قوله من المسجد ناوليني وقد قال بذلك طائفة من العلماء واستدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تعرض لها إذا لم يكن على جسدها نجاسة وأنها لا تمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها ،
وممن نقلت عنه الرخصة في العبور ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وابن جبير والحسن ومالك والشافعي وأهل الظاهر، وقد علقت طائفة من العلماء على الحديث السابق بقول السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله من المسجد ناوليني الخمرة) على التقديم والتأخير ولكن ورد هذا الحديث بلفظ آخر وهذا اللفظ رواه النسائي عن عائشة قالت : (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ إِذْ قَالَ ‏"‏يَا عَائِشَةُ نَاوِلِينِي الثَّوْبَ"‏ ‏.‏ فَقَالَتْ إِنِّي لاَ أُصَلِّي ‏.‏ فَقَالَ ‏"‏إِنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِكِ‏") وقد رواه مسلم أيضا (299) والنسائي (1/299)
ولكن من حديث أبي هريرة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: (‏يَا عَائِشَةُ نَاوِلِينِي الثَّوْبَ ، فقالت : إني حائض ، فقال : إِنَّ حيضتك لَيْسَ فِي يَدِكِ).
وهذا الحديث بهذا اللفظ يدل صراحة على ان النبى صلى الله عليه وسلم هو الذي كان في المسجد وكانت عائشة رضي الله عنها والثوب خارج المسجد ، ويكون الحديث السابق قد وقع فيه تقديم وتأخير كما قلنا، وإذا انتفى هذا التقديم والتأخير في اللفظ يكون : قال لي رسول الله من المسجد ناوليني الخمرة، قالت : إني حائض ، قال : (إن حيضتك ليست في يدك) وهذا هو المشهور من مذاهب العلماء أنها لا تدخل مقيمة ولا عابرة لقوله : (لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُب) رواه أبو داود .
قالوا لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة ، والجنب لايمكث فى المسجد بالاتفاق وإنما اختلفوا في عبوره . والمشهور من مذاهب العلماء منعه فالحائض أولى بالمنع وهذا مذهب سفيان وإسحاق وأصحاب الرأي والمشهور من مذهب مالك .
*****
3) وهناك حديث للسيدة عائشة رضي الله عنها وقد اختلف في تصحيحه وتضعيفه جمع من العلماء ، والحديث رواه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها ورواه أيضا ابن ماجة والطبراني من حديث أم سلمة رضي الله عنها . أما حديث عائشة الذي رواه أبو داود في سننه باب93 في (الجنب يدخل المسجد) كتاب الطهارة ح/229 قال : حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا أْفلت بن خليفة قال : حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة تقول : جاء رسول الله ووجوه بيوت أصحابه شارعة فى المسجد فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، ثم دخل النبي ولم يصنع القوم شيئاَ رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج اليهم بعد فقال : (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولاجنب) . أخرجه أبو داود(232) والبيهقي(2/442-443      ) وابن خزيمة(2/284) والبخاري في التاريخ الكبير(1/2/67) مختصرا ورواه أيضا الدولابي في الكني(1/150-151     ) مختصرا ،
وخرجة الزيلعي في نصب الراية : قال روي من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها من حديث أم سلمة عن ابن ماجة ، فحديث عائشة عن أفلت عن جسرة بنت دجاجة ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَقَالَ : لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ} . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وهوحديث حسن صالح للاحتجاج به .
قال ابن القطان في " كتابه " قال أبو محمد عبد الحق في حديث جسرة هذا : إنه لايثبت من قبل إسناده ، ولم يبين ضعفه ،
ولست أقول : إنه حديث صحيح ، وإنما أقول : إنه حسن ، فإنه يرويه عبد الواحد بن زياد ثنا أفلت بن خليفة حدثتني جسرة بنت دجاجة عن عائشة ، وعبد الواحد ثقة لم يذكر بقادح ، وعبد الحق احتج به في غير موضع من "كتابه" وأفلت هذا ، يقال فليت بن خليفة العامري ،
*****
قال ابن حنبل : ما أرى به بأسا وقال فيه أبو حاتم : شيخ . وأما جسرة بنت دجاجة ، فقال فيها الكوفي : تابعية وقول البخاري في "تاريخه الكبير" عندها عجائب ، لايكفي في إسقاط ما روت. وقد روي عنها أفلت وقدامة بن عبد الله بن عبده العامري ، انتهى كلامه.

*****
وقال الخطابي : وقد ضعفوا هذا الحديث ، وقالوا : أفلت راوية مجهول لايصح الاحتجاج بحديثه ، قال المنذري في "مختصره" وفيما قاله نظر فإنه أفلت بن خليفة ، ويقال أفلت العامري ، ويقال الذهلي كنيته أبوحسان ، حديثه في الكوفيين ، روي عنه سفيان الثوري . وعبد الواحد بن زياد ، انتهى .
وأما حديث أم سلمة . فرواه ابن ماجة في "سننه" والطبراني في "معجمه" قال ابن أبي حاتم في علله : سمعت أبا زرعة يذكر الحديث ويقول: يقولون عن جسرة عن أم سلمة ، والصحيح عن جسرة عن عائشة ، انتهى كلامه.
قلت : قد ذهب كل من ابن حزم والخطابي بتضعيفه بسبب أفلت بن خليفة وجسرة بنت دجاجة ، وقالوا بأن أفلت هو مجهول ، وقال البخاري عن جسرة بأن عندها عجائب.
وفصل القول في الحديث يأتي بعد ترجمة سنده حتى يظهر لنا درجة الحديث ، والحديث جاء من طرق منها .
عن عبد الواحد بن زياد عن أفلت بن خليفة قال حدثتني جسره بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : الحديث وقد تقدم لفظه عبد الواحد بن زياد : هو العبدي البصري ثقة من رجال الشيخين وغيرهما إلا أن في روايته عن الأعمش مقالا ، وليس هذا الحديث من روايته عنه أفلت بن خليفة : هو العامري الذهلي أبو حسان الكوفي يقال له فليت صدوق من الخامسة روى عن : جسرة ودهيمة بنت حسان . وروى عنه : الثوري وأبو بكر بن عياش وعبد الواحد بن زياد ، وقال أحمد فيه ما أرى به بأسَا ، وقال أبوحاتم طبيب الحديث في علله شيخ , وقال الدارقطني صالح ، وقال في البدر المنير بل هو مشهور ثقة , وذكره ابن حبان في الثقات وحسنه ابن القطان وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه ، وقال أبو داود سمعت يحيى بن معين يقول : أفلت وفليت واحد فكيف الي من ذهب بأنه مجهول وقد روي عنه ثقات وله ترجمة في التهذيب وعدله جمع من العلماء.
جسرة بنت دجاجة: هي العامرية الكوفية ذكرها المزى في تهذيب الكمال م/35 في النساء وقال روت عن : علي بن أبي طالب ، وأبي ذر الغفاري ( س ق) وعائشة أم المؤمنين (د س) ، وأم سلمة زوج النبي (ق) .
روى عنها : أفلت بن خليفة العامري (س ق) ، ومخدوج الذهلي (ق) . قال أحمد بن عبد الله العجلي : تابعية ، ثقة . وذكرها ابن حبان في الثقات . روي لها أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة . وذكرها أيضَا الحافظ ابن حجر في كتاب " الاصابة " م/8
في النساء وقال تابعية معروفة ، وورد مايدل علي أن لها إدراكا ، فأخرج ابن منده حديثا من طريق عثمان بن علي عن قدامة . كما ذكرها ابن منده في الصحابة .
وذكرها الحافظ أيضَا في كتاب " لسان الميزان " م/7 وفي كتاب " تهذيب التهذيب "
م/4 وذكر ما روي عنها ومن روت عنه وقول العجلي فيها وابن حبان وقال ذكرها أبو نعيم في " الصحابة " وقال البخاري في " التاريخ الكبير" عند جسرة عجائب . وقد رد عليه أبو الحسن بن القطان : هذا القول لايكفي لمن يسقط ما روت . كأنه يعرض بابن حزم لأنه زعم أن حديثها باطل . وقد ضعفها الألباني في الإرواء وقال بأن الحافظ لين جسرة بنت دجاجة ، وقد قال الحافظ في ترجمته لها في " التقريب "مقبولة , من الثالثة ، ويقال : إن لها إدراكَا . د س ق .
*****
4) ولنا ما ورد في الفتح م/2 للحافظ ابن حجر في شرح البخاري م/2 ح/296 باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله ، قال أخبرني هشام عن عروة أنه سئل : ( أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي جنب ؟ فقال عروة : كل ذلك علي هين ، وكل ذلك تخدمني وليس علي أحد في ذلك بأس ، أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل ـ تعني رأس رسول الله وهي حائض ورسول الله حين إذ مجاور في المسجد يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض) . ذكر الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث بأن عروة ألحق الجنابة بالحيض قياسا وهو جلي لأن الاستفزاز بالحائض أكثر من الجنب وأن الحائض لاتدخل المسجد .
5) قلت : وهذا الحديث من أقوى الأدلة ويقوي حديث جسرة وحجة أيضَا علي من يضعف حديث جسرة وحجة في هذا الباب، والله أعلم .
*****
فصل : في أقوال أهل العلم في مكث الحائض والجنب في المسجد

مذهب عائشة : جاء في كتاب موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ص272 باب الحدث وآثاره 1) المكث في المسجد : إذا كان الشخص محدثا حدثا أكبر ، فإنه يحرم عليه المكث في المسجد . قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في تفسير قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) 187 البقرة – قالت : (كان النبي يصغي الي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض) صحيح البخاري 4/272 في الاعتكاف وتفسير ابن جرير الطبري 3/545/ م
قلت : وهذا هو الصحيح من القول والمذهب المعول عليه والحديث حجة في الباب وحجة على من يدعي غير ذلك . فلو كان دخول المسجد جائزا لها لما اضطر النبي إخراج رأسه إليها لترجله ، بل دخلت عليه .
*****
مذهب عثمان : جاء في كتاب موسوعة فقه عثمان بن عفان رضي الله عنه ص 129 باب الحيض . 2- مايحرم على الحائض : قال يحرم علي الحائض الصوم والصلاة والمكث في المسجد للإجماع وأن يأتيها زوجها لقوله تعالى في سورة البقرة/222 : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ) .
*****
مذهب ابن مسعود : جاء في موسوعة فقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ص 205 باب الحيض : 2- مايحرم على الحائض : أ- يحرم علي المرأة الحائض مايحرم على الجنب ، من الصلاة ، والمكث في المسجد دون المرور فيه، إذ يجوز لها أن تمر في المسجد وأن تدخله دون مكث ، وقال رضي الله عنه : (الحائض تضع في المسجد الشيء وتأخذه منه) ، والطواف حول الكعبة ، وقراءة القرآن ، ومسه .
*****
مذهب سفيان : جاء في كتاب موسوعة فقه سفيان الثوري ص363 باب الحيض 6- آثار الحيض : أ – دخول المسجد : لا يجوز للحائض المكث في المسجد ، ولكن يجوز لها دخول المسجد لأخذ شيء منه أو وضع شيء فيه من غير أن تمكث فيه .
وجاء في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة م/1 ص 110 كتاب الطهارة " مبحث مايجب علي الجنب أن يفعله قبل أن يغتسل من دخول مسجد ، و قراءة قرآن . ونحو ذلك . قالوا يحرم علي الجنب أن يباشر عملا من الأعمال الشرعية الموقوفة علي الوضوء ، قبل أن يغتسل ". ثم ذكروا أقوال الائمة فهذا المبحث ومنها . المالكية قالوا : أما دخول المسجد ، فإنه يحرم علي الجنب أن يدخله ليمكث فيه ، أو ليتخذه طريقا يمر منها ، ولكن يباح له دخول المسجد في صورتين ؛
الصورة الأولي : أن لايجد ماء يغتسل منه إلافي المسجد ، وليس له طريق إلا المسجد ، فحينئذ يجوز له أن يمر بالمسجد ليغتسل ، ومثل ذلك ما إذا كان الدلو ، أو الحبل الذي ينزع به الماء في المسجد، ولم يجد غيره ، فإن له أن يدخل المسجد ليأخذه ، وهذه الصورة كانت كثيرة الوقوع في القري التي ليست بها أنابيب المياه أما الآن ، وقد عمت الأنابيب ، وبطلت المياضي والمغاطس وأصبحت دورة المياه مختصة بباب، فإنه ينبغي للجنب أن يدخل من باب الدورة ولايمر في المسجد ، فإذا وجد مسجد ليس فيه مواسير، وليس له باب دورة ، وانحصر ماء الغسل فيه ، فإن له أن يدخل المسجد ليغتسل ، ويجب عليه أن يتيمم قبل الدخول ،
الصورة الثانية : أن يخاف من أذي يلحقه ؛ ولم يجد له مأوي سوي المسجد ، فإن له في هذه الحالة أن يتيمم ، ويدخل ، ويبيت فيه حتي يزول مايخاف منه .
*****
الحنفية قالوا : وكذلك يحرم علي الجنب دخول المسجد، إلا للضرورة ، والضرورة في مثل هذا تقدر بما يناسب ، فمنها أن لايجد ماء يغتسل به إلا في المسجد ، كما هو الشأن في بعض الجهات ففي هذه الحالة يجوز له أن يمر بالمسجد إلي المحل الموجود فيه الماء ليغتسل ، ولكن يجب عليه أن يتيمم قبل أن يمر ، و ذلك إذا ما اضطر إلي دخول المسجد خوفا من ضرر يلحقه ، كما يقول المالكي’ ، وعليه في هذه الحالة أن يتيمم .
والحاصل أن تيمم الجنب بالنسبة لدخول المسجد تارة يكون واجبا ، وتارة يكون مندوبا فيجب عليه أن يتيمم في صورتين ،
الصورة الأولي : أن تعرض له الجنابة ، وهو خارج المسجد ثم يضطر لدخول المسجد ، وفي هذه الحالة يجب عليه التيمم ،
الصورة الثانية : أن ينام في المسجد وهو طاهر ، فيحتلم ، ثم يضطر للمكث به لخوف من ضرر، وفي هذه الحالة يجب عليه أن يتيمم فالتيمم لايجب عليه إلا في هاتين الصورتين ، وما عداهما فإنه يندب له التيمم . فيندب لمن عرضت له جنابة في المسجد ، وأراد الخروج منه أن يتيمم ، أو اضطرته الضرورة الي الدخول وهو جنب ولم يتمكن من التيمم ثم زالت الضرورة ، وخرج فإنه يندب له أن يتيمم ، كي يمر به وهو متيمم ، وعلي كل حال ، فإن هذا التيمم لايجوز أن يقرأ به ، أو يصلي به .
*****
الشافعية قالوا : أما المرور بالمسجد ، فإنه يجوز للجنب والحائض والنفساء من غير مكث فيه ، ولا تردد بشرط أمن عدم تلوث المسجد ، فلو دخل من باب وخرج من آخر جاز ، أما إذا دخل وخرج من باب واحد و فإنه يحرم ؛ لأنه يكون قد تردد في المسجد ، وهو ممنوع ، إلا إذا كان يقصد الخروج من باب آخر غير الذي دخل منه ، ولكن بدا له أن يخرج منه ، فإنه لايحرم ، ويجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمكث في المسجد لضرورة ، كمن إذا احتلم في المسجد ؛ وتعذر خروجه منه لغلق أبوابه ؛ أو خوفه علي نفسه أو ماله ، لكن يجب عليه التيمم بغير تراب المسجد إن لم يجد أصلا؛ فإن وجد ماء يكفيه للوضوء وجب عليه الوضوء .
*****
الحنابلة قالوا : أما المرور بالمسجد والتردد به بدون مكث ، فإنه يجوز للجنب والحائض والنفساء حال نزول الدم إن أمن تلويث المسجد . ويجوز للجنب أن يمكث في المسجد بوضوء ولو بدون ضرورة . أما الحائض والنفساء فإنه لايجوز لهما المكث بالوضوء ، إلا إذا انقطع الدم .
*****
قول السرخسي : ذكر الامام السرخسي في كتاب " المبسوط " م/2 جزء 3 كتاب الحيض . فصل : وأما الاحكام التي تتعلق بالحيض عشرة أو أكثر . منها أنها لاتطوف بالبيت لقوله صلي الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف اصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لاتطوفي بالبيت . ومنها أن لا تدخل المسجد لأن ما بها من الأذى أغلظ من الجنابة والجنب ممنوع من دخول المسجد فكذلك الحائض. قول الشافعي : ذكر الشافعي في كتاب الأم م/1 ص 120 كتاب الطهارة .
باب : ممر الجنب والمشرك علي الأرض ومشيهما عليها
قال الشافعي قال الله تبارك وتعالي: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) : بعض أهل العلم بالقرآن في قول الله عزوجل (ولاجنبا إلاعابري سبيل) قال : لاتقربوا مواضع الصلاة . وما أشبه ما قال بما قال ، لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل،إنما عبور السبيل في موضعها وهو المسجد مارا، ولايقيم فيه وهناك من جوز المرور للحائض والنفساء ،
وبعضهم قال إنه يحرم مرورهما لاحتمال التلويث , وأنه إذا مرت احداهن وكانت حيضا وأمنت التلويث جازا لها المرور . كما روي مسلم في صحيحه عن يحيي بن يحيي وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب جميعا عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله ‏: "‏نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ‏"‏ ‏.‏ فَقُلْتُ إِنِّي حَائِضٌ ‏.‏ فَقَالَ : ‏"‏لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ"‏ ) .
قال النووي : يعني أن يدك ليست نجسة لأنه لاحيض فيها . والخمرة : قال الخطابي هي السجادة التي يسجد عليها المصلي ،
ويقال: سميت بها لأنها تخمر وجه المصلي عن الأرض ، أي تستره . رواه أبو داود عن مسدد بن مسرهد، عن أبي معاوية، عن الأعمش . وفيه دلالة علي مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم .
*****
قول النووي : ذكر النووي في المجموع 2/373 يحرم علي الحائض والنفساء مس المصحف ، وحمله ، واللبث في المسجد ، وكل هذا متفق عليه عندنا . ثم قال أيضا : وأما عبورها بغير لبث ، فقال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: أكره مرالحائض في المسجد ،
قال أصحابنا : إن خافت تلويثه لعدم الاستيثاق بالشد أولغلبة الدم حرم العبور بلا خلاف ، وإن أمنت ذلك فوجهان : الصحيح منهما جوازه وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي ، وبه قطع المصنف والبندينجي وكثيرون وصححه جمهور العلماء الباقين كالجنب ، وكمن علي بدنه نجاسة لايخاف تلويثه .
*****
قول ابن قدامة : ذكر ابن قدامة الحنبلي في كتاب المغني 1/145،146 في شرحه علي قول الخرقي : ولايقرأ القرآن جنب ولانفساء . مانصه : وليس لهم اللبث في المسجد ... ويباح العبور للحاجة من أخذ شيء أو تركه أو كون الطريق فيه – فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال .
وممن نقلت عنه الرخصة في العبور : ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وابن جبير والحسن ومالك والشافعي ، وقال النووي وإسحاق : لايمر في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتمم ، وهو قول أصحاب الرأي . وقال أيضا : فأما المستحاضة ومن به سلس البول ، فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد ، فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور انتهي .
*****
قول ابن أبي شيبة : ذكرأبي بكرعبد الله بن محمد الكوفي في "مصنفه" م/2 ص141 في الحائض تناول الشيء من المسجد : قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن قال : سئل ابن عمر عن الحائض تناول الطهور أو الشيء من المسجد فقال : إن حيضتها ليست في يدها .
وعن إبراهيم قال : لا بأس أن تضع الحائض في المسجد الشيء وتأخذه منه ولا تدخله . وعن الزهري أنه كان لا يري بأسا أن تضع الحائض في المسجد ما شاء ت وتأخذه منه . وعن قتادة قال : الحائض تأخذ من المسجد ولا تضع فيه . وعن عطاء في الحائض تناول في المسجد الشيء قال : نعم إلا المصحف . وعن الحسن أنه كان لا يري بأسا أن تأخذ الحائض الشيء من المسجد وتضعه فيه انتهي .
*****
قول بن نصر : ذكر القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي في كتاب "الإشراف علي مسائل الخلاف" م/2 ص596 (مسألة-220) : لايجوز للجنب اللبث في المسجد ، خلافا لداود لقوله – عليه السلام - : (لاأحل المسجد لحائض ولا لجنب) (مسألة –221) : ولايجوز له المرور فيه ، خلافا للشافعي ، للخبر أيضا .
*****
قول البغوي : ذكر الإمام المحدث الفقيه الحسين بن مسعود البغوي في كتاب "شرح السنة" م/2 ص45 قال الإمام : ولايجوز للجنب ، ولا للحائض المكث في المسجد عند كثير من أهل العلم ، لما روي عن عائشة أن رسول الله قال : (وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فاني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) وهذا قول سفيان ، ومالك ، والشافعي ، واصحاب الرأي . وجوز مالك والشافعي المرور فيه ، وهو قول الحسن .
*****
قول الملاعلي القاري: ذكر العلامة علي بن سلطان محمد القاري في كتاب "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ص247 كتاب الطهارة ح549 عن عائشة رضي الله عنها، قالت : قال لي النبي : (ناوليني الخمرة من المسجد) . فقلت : إني حائض . فقال : (إن حيضتك ليست في يدك) . رواه مسلم .
قال "من المسجد" : قيل : حال من النبي ، فتكون الخمرة في الحجرة والنبي في المسجد ، وقيل : حال من الخمرة يحتمل فيكون الأمر علي العكس وهو الظاهر . قال ابن حجر : من المسجد متعلق بناوليني ، وحينئذ يحتمل أن المراد ادخلي المسجد فخذيها وأعطيني إياها من غير مكث ولاتردد فيه لحل هذا للحائض إذا أمنت التلويث ، أو مدي كفك وأنت خارجة فتناوليها منه ، ثم ناوليني إياها ، وهذا جائز أيضا بالأولي ، وإنه متعلق بقال لكنه بعيد . وأبعد منه ماقاله أولا فإنه يبعد شرعا وعرفا لعدم دخول الحائض المسجد في مذهبنا مطلقا .
فصل في فتاوي أهل العلم في لبث الحائض في المسجد
فتاوي ابن تيمية : سئل – رحمه الله – عن طواف الحائض ، والجنب , والمحدث قال وقوله (الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) من جنس قوله: (لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتي يتوضأ) ، وقوله : (لايقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) ، وقوله : (لا أحل المسجد لجنب ولا حائض) ، ورخص للحائض أن تناوله الخمرة من المسجد ، وقال لها : (إن حيضتك ليست في يدك) تبين أن الحيضة في الفرج ، والفرج لاينال المسجد ، وهذه العلة تقتضي إباحته للحائض مطلقا ، لكن إذا كان قد قال: (لا أحل المسجد لجنب ولاحائض) فلا بد من الجمع بين ذلك ، والإيمان بكل ما جاء من عند الله ، وإذا لم يكن أحدهما ناسخا للآ خر ، فهذا عام مجمل ، وهذا خاص فيه إباحة المرور ، وهو مستثني من التحريم ، مع أنه لا ضرورة إليه انتهي .
*****
فتاوي اللجنة الدائمة : سئلت اللجنة في م/5 فتوي رقم/6948 هل يحل للحائض دخول المسجد ؟ فكان جواب اللجنة : " لايجوز للحائض دخول المسجد إلا مرورا إذا إحتاجت إلي ذلك كالجنب لقوله تعالي: " ياأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتي تغتسلوا" .
*****
فتاوي المرأة المسلمة : ورد في المجلد الأول ص/288 لأصحاب الفضيلة محمد أمين إبراهيم أل الشيخ – وعبد الرحمن السعدي – وعبد الله بن حميد – وابن باز –وابن عثيمين – وابن جبرين – وابن فوزان ، سئل الشيخ محمد صالح بن عثيمين عليه رحمه الله : هل يجوز للحائض حضور حلق الذكر في المساجد ؟ فأجاب : "المرأة الحائض لا يجوز لها أن تمكث في المسجد ، وأما مرورها بالمسجد فلا بأس به بشرط أن تأمن تلويث المسجد مما يخرج منها من الدم ، وإذا كان لا يجوز لها ان تبقى في المسجد ، فإنه لا يحل لها أن تذهب لتستمع إلي حلق الذكر وقراءة القرآن ، اللهم إلا أن يكون هناك موضع خارج المسجد يصل إليه الصوت بواسطة مكبرات الصوت ، لأنه ثبت عن النبي أنه كان يتكيء في حجر السيدة عائشة رضي الله عنها فيقرأ القرآن وهي حائض ، وأما أن تذهب إلي المسجد لتمكث فيه للإستماع للذكر ، أو القراءة فإن ذلك لا يجوز ، ولهذا لما أبلغ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ، أن صفية كانت حائضا قال : (أحابستنا هي ؟) ظن أنها لم تطف طواف الإفاضة ، فقالوا إنها قد حاضت ، كما ثبت عنه أنه أمر النساء أن يخرجن إلي مصلي العيد للصلاة والذكر ، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلي" .
*****
فتاوي ابن عثيمين : سئل الشيخ رحمه الله في م/1 ص/313 عن : ما حكم وجود المرأة في المسجد الحرام وهي حائض لإستماع الأحاديث والخطب ؟ فأجاب : "لايجوز للمرأة الحائض أن تمكث في المسجد الحرام ولا غيره من المساجد ولكن يجوز لها أن تمر بالمسجد وتاخذ الحاجة منه وما أشبه ذلك كما قال النبي لعائشة حين أمرها أن تأتي بخمرة ، فقالت : إنها في المسجد وهي حائض ، فقال : "إن حيضتك ليست في يدك" فإذا مرت الحائض في المسجد وهي آمنة من أن لاينزل دم علي المسجد فلا حرج عليها ، أما إن كانت تريد أن تدخل وتجلس فهذا لا يجوز" .
*****
الخلاصــــــــــة
قلت : 1) إنه من الحق الذي لاريب فيه بعد أن أوردنا الأحاديث الدالة علي جواز مرور المرأة في المسجد وعلي ترجمة سند الحديث الذي يدور حوله الكلام في تضعيفه وتحسينه وعلي أقوال أهل العلم وفتاوي العلماء يتبين لنا بعدم مكث الحائض في المسجد لسماع الدروس والخطب وهذا مالم يقل بخلافه أحد .
2) وإن الناظر في أحكام الشرع وتشريعاته الخاصة بالمرأة وكيف جاء الإسلام للحافظ علي كرامتها بعد أن كانت رخيصة الثمن وسلعة تباع وتشتري في الجاهلية ، يعلم جيدا بأن المرأة لها أحكام خاصة بها وضعها الشارع الحكيم تناسب طبيعتها وجبلتها التي جبلت عليها . وأن الله عز وجل أوصى بها وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في أخر وصية له وهو في سكرات الموت يستوصي بها خيرا لأن أول فتنة في بني إسرائيل كانت النساء وعليه بأن الأصل في أي أحكام المرأة أو غيرها علينا أن ننظر في مصادر التشريع من كتاب وسنة وإجماع وقياس ومصدر التشريع الأول وهو القرآن كفانا أحكاما ، تخص النساء وبينتها السنة المطهرة . ففي سورة الأحزاب يقول الله عز وجل (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) . فاعتبر القرآن خروج المرأة من البيت بدون ضرورة ومخالطة الرجال في الطرقات تبرج ,
وجاء في التفاسير أن من أسباب نزول هذه الآية أن المرأة كانت تخرج مسفحة بصدرها بين الرجال في الطرقات وتزاحمهم ، فنزلت هذه الآية . والأصل بأن المرأة قرارها ووقرها في البيت والخروج من البيت للضرورة وهو الرخصة ، وقد وضع أهل العلم شروطا لخروج المرأة من بيتها حتي ولو كانت محجبة أو منتقبة وهذه الشروط يعلمها القاصي والداني وسوف أبينها ،
وعليه أريد أن أسال الذين يبيحون للمرأة أن تجلس في المسجد وهي حائض أو نفساء , أليس الله عز وجل قد رفع عنها الصلاة في هذا الوقت وهي أعظم شيء وبغير ذلك العذر ألم يرفع عنها وجوب شهود الجماعات والجمعة بسبب ما كتبه الله علي بنات جنسها وهذا هو النقص في الدين ، فلماذا تريدون أن تكلفوها ما لم يكلفها الله عز وجل بها ؟ أليس هذا من التنطع في الدين ؟ والله لايحب المتنطعين نسأل الله العافية .
3) أما بالنسبة للسنة المطهرة فقد جاء في كتب السنن أبواب علي ترغيب النساء في الصلاة في بيوتهن ولزومها وترهيبهن من الخروج منها . روي الأمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أم حميد إمراة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما ( أنها جاءت إلي النبي فقالت : يارسول الله ، إني أحب الصلاة معك ؟ قال : قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي) ، قال : فأمر فبني لها مسجد في أقصي شيء من بيتها وأظلمه وكانت تصلي فيه ، حتى لقيت الله عز وجل . وعند أبي داود وغيره في باب "ماجاء خروج النساء إلي المسجد" عن عبد الله عن النبي قال : صلاة المرأة في بيتها(الداخل) أفضل من صلاتها في حجرتها (صحن الدار) وصلاتها في مخدعها (البيت الصغير داخل البيت الكبير) أفضل من صلاتها في بيتها .
وعن ابن عمر رضي الله تعالي عنهما قال : قال رسول الله (لاتمنعوا نساءكم المساجد ، وبيوتهن خير لهن) رواه أبو داود أيضا وإسناده صحيح . وعنه عن النبي قال : (المرأة عورة ، وأنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان ، وأنها لا تكون أقرب الي الله منها في قعر بيتها) رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح .
وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : (ماصلت امرأة من صلاة أحب إلي الله من أشد مكان في بيتها ظلمة) رواه الطبراني في "الكبير " وإسناده حسن . وعنه أيضا عن النبي قال : (النساء عورة ، وإن المرأة لتخرج من بيتها ومابها بأس فيستشرفها الشيطان ، فيقول : إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته ، وأن المرأة لتلبس ثيابها ، فيقال أين تريدين ؟ فتقول : أعود مريضا أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد ، وما عبدت امرأة ربها مثـل أن تعبده في بيتها) رواه الطبراني في "الكبير" وإسناده حسن .
وعن أبي عمرو الشيباني أنه رأي عبد الله يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ، ويقول : (أخرجن إلي بيوتكن خير لكن) رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد لا بأس به .
والأحاديث في هذا الباب وصلت الي حد التواتر والتي بها رفع وجوب الصلاة الجماعة في المسجد وأن صلاتها في البيت أفضل في البيت أفضل وهذا هو الأصل ، فهل حضور مجالس الذكر أفضل من الصلاة ؟ وهي الركن الثاني بعد الشهادة وهي العهد الذي بين المؤمن والكافر . وإذا قال قائل بأن علي المرأة أن تخرج لتتعلم أمور دينها ويحتج بحديث (لاتمنعوا إماء الله مساجد الله) .
نقول بأن الخروج مباح والأصل عدم الخروج فكيف يقدم المباح علي الواجب ، وإذا خرجت المرأة من بيتها لتتعلم أمور دينها أليس هناك شروط وضوابط منها الآتي : ـ
أولا : ألا يكون عندها ولي يقوم بتعليمها المعلوم من الدين بالضرورة الذي يصلح به عبادتها وهذا فرض علي وليها وعليها .
ثانيا : أن تخرج في غير زينة وباللباس الشرعي المنصوص عليه شرعا .
ثالثا : أن تخرج آمنة الفتنة لاتفتن ولاتُفتن .
وهذا هي بعض الشروط الواجبة علي المرأة لخروجها إلي المسجد للتعلم ، وهذا في حالة الطهر ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين والأئمة المبجلين بان هذه الشروط في حالة الحيض .
3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يخرجن إلي مصلي العيد ليشهدن صلاة العيد وأمر الحائض والنفساء أن تجتنب المصلي . عن أم عطية قالت : (أمرنا رسول الله أن تخرج العواتق وذوات الخدور) . وعن أيوب عن حفصة رضي الله عنها قال ـ قالت ـ (العواتق وذوات الخدور ، ويعتزلن الحيض المصلى) رواه البخاري في العيدين باب "خروج النساء والحيض الي المصلي" (15/974) الفتح ، وفي كتاب الحيض : باب "شهود الحائض العيدين" ورواه مسلم في صلاة العيدين باب "في خروج النساء الي العيدين" (4/890) ورواه أبو داود (1139،1138،1137،1136 ) ` باب "خروج النساء في العيد" ورواه الترمذي رقم (539 ،540 ) والنسائي (3/180 ،181) وهذة الاحاديث صريحا في دلالة منع الحائض من المصلي سواء أرادت المرور أو المكث ،
والسؤال : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحائض والنفساء أن تجتنب مصلى العيد ؟ وهل مصلى العيد أعظم حرمة من المسجد ؟ هذا سؤال الي كل من يفتي بجواز دخول المرأة الحائض الي المسجد والجلوس لسماع الدروس فيه . مع العلم والصحيح المتعارف عليه عند أهل العلم بأن المسجد أشد حرمة من مصلى العيد وذلك لأن المسجد يقام فيه الصلوات الخمس والجمعة وسائر العبادات مع العكس لمصلى العيد الذي لايقام فيه غير صلاة العيد . إذا عليه من باب أولي أن تمنع المرأة الحائض والنفساء من المسجد لأنه أعظم عند الله من المصلى ، هذا والله أعلم .
*****
فصـل فـي ذكـر شبهـات والـرد عليهـا
الشبهة الأولى : تضعيف بعض العلماء لجسرة بنت دجاجة وسبب هذا التضعيف .
*****
أولا : قول البخارى بأن لها عجائب ورد ابن القطان عليه ضعيف .
ثانيا : أن العجلي متساهل في التوثيق .
ثالثا : ذكر ابن حبان لها في الثقات لايوثقها لوجود الفرق بين ذكرها في الثقات وبين . أن ينص ابن حبان علي توثيقها مع التساهل لابن حبان في التوثيق .
رابعا : أن البخارى قال عن الحديث : لايصح ، وقال عبد الحق الأشبلي لايثبت وأن
الإمام أحمد ضعف الحديث .
*****
الـرد عـلي الشـبهة الأولـي
أولا : قول البخارى بأن لها عجائب لايسقط خبرها بعد ثبوت تعديل من سبق وذلك لأن الراوي لايترك خبره إلا إذا كثرت مخالفته للثقات في أخباره فكثرت في رواياته المناكير حتي أصبح هذا هو الغالب عليها ، فيقال فيه في تلك الحالة منكر الحديث
أما إذا قيل فيه : روى مناكير أو عنده مناكير فهذا يدل علي أن بعضا من أخباره خالف فيه الثقات فأنكره عليه علماء الحديث وهذا مقرر في كتب المصطلح . أما رد أبو الحسن بن القطان علي البخارى في قوله بأن لها عجائب لايكفي في رد أخبارها هو في حد ذاته توثيق من ابن القطان لجسرة لان جسرة لو كانت مجروحة لبين ذلك ابن القطان وهو معروف ومشهور بتعنته في أحوال الرجال , كما وصفه بهذا الذهبى في تذكرة الحفاظ في ترجمته له . وكان ابن حجر يستشهد بأقواله في مواضع عدة من التهذيب ، وكثيرا ما نقل عنه الذهبي في الميزان إذ هو إمام معروف ومشهور وله حكم علي الرجال فكيف نهمل قوله ورده علي البخارى مع العلم بأنه حسن حديث جسرة ، وهذا يقتضي احتجاجه بجسرة .
ثانيا : إن قول العجلي بأنه متساهل في التوثيق دعوى بدون دليل والقول الصحيح في العجلي بأن توثيقه معتمد ولايهمل بدليل أن ابن حجر في التهذيب استشهد بقوله في عدد كبير من رجال التهذيب . بل قدم توثيقة في بعد الرجال علي قول أبا حاتم وهو أمام مقدم في الجرح والتعديل . وذلك ترجمة ابن حجر لعاصم بن شميخ الغيلاني ذكرعنه في التهذيب راويين هما عكرمة بن عمار وجواس ، وذكر أن أبا حاتم قال فيه : "مجهول" وأن العجلي قال فيه "ثقة" فقدم ابن حجر توثيق العجلي . كما أن الذهبي يعتمد توثيقه ولايهمله في الميزان . كما أننا لانعلم أحدا من أئمة الحديث أو ممن ترجم له أنه وصفه بالتساهل . ومما يدل علي عدم تساهله في الرجال أصحاب التراجم في "تاريخ الثقات" قلما قال فيهم ثقة وهو مقدم علي ابن حبان في التوثيق عند بعض أهل العلم.
ثالثا : ذكر ابن حبان لجسرة في الثقات لا يوثقها لأن هناك فرق بين ذكرها في الثقات وبين أن ينص ابن حبان على توثيقها، وهذا ممن لم يأت به أحد من أهل علم الحديث من قبل بأن يفرق بين ذكر الراوي في كتب الثقات لا يوثقه فهذا باطل لأن المعروف عند أهل هذا العلم بأنهم فرق بين الثقة والضعيف في كتب الجرح والتعديل بالترجمة له وذلك خاصة بأمهات الكتب في الرجال أما معنى أنه كتب في الثقات فقط وكتب في الضعفاء فقط فلم نرى في هذه الكتب اختلاط في تقسيم الرجال وهو أن يضع رجلا ضعيفا في كتب الثقات أو يضع رجلا ثقة في كتب الضعفاء والمعروف من اسم الكتاب بأن رجال هذا الكتاب هم الذين تم توثيقهم فوضع في كتب الثقات وأن آخر تم تجريحه وتضعيفه فوضع في كتب الضعفاء وهذا التقسيم في حد ذاته تعديل وتجريح. وعلى هذا فكيف تقول بأن ذكر جسرة في ثقات ابن حبان ليس تصريحا بتعديل جسرة بل هو تعديل لها بدليل وضعها في الثقات. أما تساهل ابن حبان في تعديلها فهذا لا يعنينا بشيء لأننا لا نقبل تعديل ابن حبان ولا نستشهد به إلا بعد تعديل من هم أكثر منه تشدداَ في تعديل الرجل وقد وثقها العجلي وهو غير معروف بالتساهل ووثقها أيضا ابن خزيمة وذكرها في صحيحه ومعروف بأن ابن خزيمة من علماء الصحيح.
رابعا: قول البخاري عن الحديث لا يصح. وسبب ذلك هو تضعيفه لجسرة وقوله فيها بأن لها عجائب وهذا الجرح لا يكفي لرد أخبارها أو لتضعيف الحديث لأن جسرة عدلها جمع من العلماء وضعفها آخرون فلا يوجد إجماع على تضعيفها. والمعروف عند أهل الجرح والتعديل إذا اجتمع في راوي جرح وتعديل. أنه يقدم الجرح إذا كان مفسراَ. أما إن زاد عدد المعدلين على الجارحين قدم التعديل. كما أن قول البخاري لها عجائب ليس مفسراَ لأنه لم يأت بما يوثق كلامه بعجائبها ولو فرض ذلك بأن هذا الحديث ليس فيه من العجائب شيئاَ وعليه فهي في هذا الحديث معدلة.
أما قول عبد الحق الإشبيلي لا يثبت من قبل إسناده فقد رد عليه ابن القطان في (كتابه) إذا كان كما يقول بأنه لا يثبت إسناده فوجب عليه أن يبين سبب ضعفه وماهي العلة الموجودة في الإسناد فإن كانت جسرة هي سبب الضعف فكيف يروي عنها عبد الواحد بن زياد هذا الحديث وهو ثقة لم يذكر بقادح، وعبد الحق احتج به في غير موضع من(كتابه) فهل يروي الثقة عن الضعيف فإن كان ذلك فهذا قدح في هذا الثقة
الشبهة الثانية : إن الحائض وإن كان حدثها أغلظ من حدث الجنابة
لما ذكرت إلا أننا لا نسلم بأنها تقاس على الجنب فى تحريم المكث فى المسجد بدلالة الآية ، وذلك لأن الحائض معذورة بحيضها حيث إنها لا دخل لها فيه لأنه شئ قد كتبه الله تعالى على بنات آدم ، وأيضا فلا يجوز لها أن تتطهر من حيضها إلا بعد انقطاع الدم ، وأما الجنب فإنه ليس معذورا بجنابته ، لأن له دخلا فيها وأيضا فيمكنه أن يتطهر منها متى شاء ، وعلى هذا فلا يصح أن تقاس الحائض عليه في تحريم المكث فى المسجد .
الرد علي الشبهة الثانية
من الظاهر أن عذر الحائض بحدثها لا تأثير له فى تغيير الحكم بشأنها أو رفعه كلية ومما يدل على هذا ما يأتى :
1- أننا لا نعلم خلافا من أحد من الفقهاء فى أن الرجل إذا كان نائما فى المسجدثم احتلم أنه يجب عليه إذا انتبه من نومه وعلم باحتلامه أن يخرج من المسجد مباشرة إلا لضرورة ، مع أنه معذور باحتلامه حيث إنه لم يكن قادرا على منع ذلك ، ومع ذلك فلا نعلم دليلا يرخص له بالمكث فى المسجد بدون غسل أو وضوء .
2- أن الحائض يحرم عليها أن تطوف بالبيت سواء أكان طوافا مستحبا أو واجبا وقد ثبت فى السنة مادل على ذلك ، مع أنها معذورة بحدثها ، بل إنها ممنوعة من طواف الإفاضة – وهو ركن فى الحج بلا خلاف نعلمه وقد دل الدليل على ركنيته – فلا يجوز لها أن تطوف قبل أن تتطهر ، ولو أدى هذا إلى أنها تكون سببا فى تأخير من معها عن عودتهم إلى بلادهم لانتظارها حتى تتطهر ثم تغتسل ثم تطوف طواف الإفاضة . ولكنه رخص لها إذا حاضت قبل طواف الوداع أن تنفر بدونه إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة قبل ذلك .
3- أنه يحرم على الرجل أن يطلق امرأته حال حيضها ، ولو مع احتمال تضررها أو تضرر زوجها من تأخير تطليقا إلى مابعد طهرها ، مع أنها معذورة بحيضها .
4- أنه يحرم على الحائض الصوم والصلاة ، بل معذورة بحيضها ، ولايجب عليها قضاء الصلاة تخفيفا عليها – والله أعلم – لأن الصلاة تتكرر كل يوم ، أما الصوم فهو شهر فى السنة .
5- أن من كان متوضئا ثم أحدث ناسيا فقد انتقض وضوءه مع أن النسيان شئ ، لا يخلو منه إنسان .
6- أن من نام عن صلاة أو نسيها حتى خرج وقتها ، وجب عليه أن يصليها بعد انتباهه من النوم أو تذكرها ، ولا تسقط عنه هذه الصلاة مع أنه كان معذورا بنومه أونسيانه .
7- أن من جنى جناية أثناء نومه كأن قتل مسلما كان مطالبا بالدية مع أنه كان معذورا بنومه ، وكذلك إذا فقأ عينه أو كسر ثنيته أو غير ذلك كان مطالبا ببعض الدية بقدر جنايته على حسب المقرر فى الأدلة .
8- أن من نام فاحتلم ثم صلى بغير غسل لعدم علمه باحتلامه ، وجب عليه بعد أن يعلم ذلك أن يغتسل ويعيد الصلاة بلا خلاف نعلمه من أحد من الفقهاء ، مع أنه معذورا بجنابته ، وكذلك من أجنب ثم صلى ناسيا بدون غسل كانت صلاته باطلة
ويجب عله إذا تذكر أن يغتسل وأن يعيدها بلا خلاف نعلمه ، مع أنه كان معذورا بنسيانه . ومن هنا يتضح لنا أن قياس الحائض على الجنب فى تحريم المكث فى المسجد يعد قياسا صحيحا .
الشبهة الثالثة : إنه قد ثبت عن عائشة رضى الله عنها فيما رواه البخارى وغيره " أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب ، فأعتقوها ، فجاءت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فأسلمت فكان لها خباء فى المسجد أو حفش"
فهذا الحديث دل على جواز مكث الحائض فى المسجد ، لأن المعروف أن النساء يحضن وهو شئ معهود منتشر بينهن لا تكاد تنفك عنه امرأة إلا نادرا ومع علم النبى صلي الله عليه وسلم بذلك فلم ينهها عن المكث فى المسجد إذا أتتها حيضتها .
الرد على الشبهة الثالثة
قلنا : لايجوز أن يعارض دليل صريح فى إثبات حكم عام على المسلمين جميعهم بدليل خاص ورد بشأن امرأة أو رجل كان لهما ظرف خاص بهما وليس لغيرهما من الناس ، لأن هذا الدليل يكون قد دخله من الاحتمالات مالم يدخل الدليل الوارد فى شأن الجميع . فمن الواضح من هذا الدليل أن هذه المرأة السوداء كانت لا أهل لها بعد إسلامها والظاهر أنه لم يكن لها مأوى تأوى إليه ، ولم يوجد لها مأوى إلا المسجد فكان مقامها فيه لاضطرارها ، فالظاهر أنها لم تنه عن المقام حتى ولو حاضت ، لإنها مضطرة لذلك ، وحيث إنه قد ثبت ما دل على أن الضرورة تبيح المحظور ، فيكون مكثها فى المسجد مباحا لها فقط لهذا ، وتكون هى وغيرها من أهل الضرورات من القوم المستثنين من بقية أفراد الدليل العام الذين شملهم التحريم . وعلى هذا فلا يجوز مع وجود هذا الاحتمال أن يحتج بهذا الدليل على جواز المكث للحائض ولو كانت غير مضطرة . وأيضا فمن القواعد المقررة أنه إذا دخل الدليل الاحتمال فقد سقط به الاستدلال وقد دخل هذا الدليل الاحتمال ـ وهو احتمال قوى لا يمكن إهماله ـ فيسقط الاستدلال به . وأيضا فلا نعلم أن النبى صلي الله عليه وسلم علم بها وأقرها علي بقائها في المسجد ولو حال حيضها ، وأيضا فالمدة التى بقيتها في المسجد لم تذكر ، فربما كانت قصيرة ولم تحض فيها ، وأيضا فمن النساء من لا يحضن إلا كل شهور مرة أو كل سنين مرة ، أفيكون هذا الدليل مع وجود كل هذه الاحتمالات حجة يعارض بها الدليل العام الصريح في التحريم ؟
وإنما كان يمكن أن يحتج بهذا الدليل علي جواز مكث الحائض في المسجد في حالة واحدة فقط ، وهى إذا ثبت أن هذه المرأة لم تكن مضطرة إلي المقام في المسجد ـ وهيهات هيها أن يثبت ذلك ولا أعلم سبيلا يرشد إلى ذلك ـ وحاضت واطلع النبي صلي الله عليه وسلم على ذلك وأقرها .
وفي حالة ثبوت ماتقدم ذكره يقال : إنه قد ورد الدليل الدال علي التحريم وتاريخه غير معلوم ، وكذلك تاريخ هذا الحديث غير معلوم ـ وسواء علم التاريخ أو لم يعلم فما دام الجمع ممكنا بين الأدلة ، فيصار إليه ، ولكن في حالتنا هذه لا يمكن الجمع
لأن الدليل الدال علي المنع وارد بلفظ لا يمكن صرفه إلي معني آخر (أعنى قوله: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، فلفظ لا أحل يدل صراحة علي التحريم فلا يمكن صرفه إلى كراهة التنزيه أو غير ذلك ، وهذا بخلاف النهى فإنه بمجرده دال على التحريم ، وهذا هو المعني الحقيقي له ، فإذا وردت القرينة الدالة علي عدم التحريم ، أمكن صرفه من المعني الحقيقي له إلى معني آخر مجازي وهو الكراهة التنزيهية . (وهذا مقرر بتفصيله فى الأصول) .
وعلى هذا فما دام لفظ الدليلين ليس معلوما فلا يصار إلى النسخ ، ولكن يصار إلى الترجيح بين الدليلين المتعارضين ، وفى حالتنا هذه يكون حديث عائشة الوارد بشأن المرأة السوداء أصح من حديثها الوارد بشأن تحريم المسجد على الحائض والجنب وبالتالى فإنه يصار إلى الإباحة . ولكن نظرا لأنه لايمكن إثبات ما تقدم ذكره بشأن المرأة السوداء ، فيكون القول بتحريم مقام الحائض في المسجد هو المعتمد ، كما تقدم .
*****
الشبهة الرابعة : أنه ثبت في الصحيح أن عبد الله بن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له .
والمعروف أن الرجل حال شبابه يعتريه الاحتلام كثيرا إذا كان غير متزوج ، وهذا يفيد أن عبد الله بن عمر كانت تصيبه الجنابه وهو فى المسجد ولا نعلم أنه أمر بالخروج حال الجنابة وهذا يدل على جواز مكث الجنب في المسجد .
الرد علي الشبهة الرابعة
قلنا : إنه لم يذكر اطلاع النبى صلي الله علي وسلم على أن ابن عمر كان ينام في المسجد أو يبيت فيه (وهذا بخلاف أصحاب الصفة ، لأن أمرهم كان مشهورا)
فلا يكون نومه حجة مع احتمال عدم اطلاع النبي صلي الله عليه وسلم على ذلك وإقراه . وأيضا لم يذكر أن ابن عمر كانت تصيبه الجنابة في المسجد أثناء نومه ويبقي فيه بعد استيقاظه من نومه ، وهذا يفيد أنه ربما كان إذا أصابته جنابة خرج من المسجد ثم اغتسل ثم رجع وهذا احتمال قائم . ومع وجود هذا الاحتمال يسقط الاستدال بالحديث كما سبق . وإذا افترضنا أنه كان يبقى في المسجد مع جنابته فلا يكون فعله حجة إلا إذا ثبت اطلاع النبي صلي الله عليه وسلم وإقراره . ويحتمل أنه كان إذا أصابته جنابة توضأ ثم مكث في المسجد كما سبق ولا يكون هذا أيضا حجة إلا إذا ثبت علم النبي  بذلك وإقراره .
فإن قيل : إنه إذا حدث من بعض الصحابة في زمن النبي خطأ فكان ينبغي أن ينزل الوحي علي النبي فيخبره بذلك حتي ينهاهم أو يبين لهم خطأهم فإذا كان بقاء أصحاب الصفة مع جنابتهم في المسجد وكذلك بقاء ابن عمر في المسجد مع الجنابة محرما لنزل جبريل عليه السلام علي النبي  فأخبره بذلك .
قلنا : إن هذا كله لايلزم بعد أن يرد الدليل من القرآن أو من سنة النبي  ويعلم به الصحابه ، وكم من خطأ وقع فيه بعض الصحابه لعدم علمهم بورود الدليل الناهي عن هذا الفعل ، ومع ذلك فلم يذكر فيما نعلم أن جبريل نزل علي
النبي  فأخبره ، ومن أمثلة ذلك قول جابر فيما رواه مسلم وغيره :
" كنا نستمتع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام علي عهد رسول الله  وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر حتي نهانا عنها عمر " رواه أحمد (3/304) من حدينه مختصرا بلفظ "كنا نتمتع علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى نهانا عمر رضي الله عنه أخيرا " يعنى النساء .
فهذا الحديث يدل علي أنهم كانوا يتمتعون بالنساء إلى أجل وهو المعروف بنكاح المتعة ، علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر حتى نهاهم عنها عمر . ومع أنه قد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم النهى عن نكاح المتعة فى عدة أحاديث صحيحة عن جماعة من الصحابة ، فلم يعلم بعض الصحابة بهذا النهى فاستمروا علي نكاح المتعة حت نهاهم عمر عنه . ومع أنهم كانوا يفعلون هذا الخطأ على عهد النبي صلي الله عليه وسلم ولسارعوا هم إلى الانتهاء عن ذلك ولما استمروا يفعلون هذا إلى عهد عمر . فيثبت بهذا بطلان هذا الإلزام ـ هذا مع ثبوت أن عبد الله بن عمر أو واحدا من أصحاب الصفة كان قد أجنب ومكث فى المسجد وهو جنب فما بالك إذا كان هذا مجرد احتمال ؟
*****
الشبهة الخامسة : إن أصحاب الصفة كانوا يبيتون في المسجد
والمعروف أن الرجال تصيبهم الجنابة بالاحتلام وغيره ، ومع ذلك فلم يأمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بالخروج من المسجد إذا كانوا جنبا , وهذا يدل علي جواز مكث الجنب فى المسجد .
الرد علي الشبهة الخامسة
قلنا : إن أصحاب الصفة كانوا قوما فقراء ولم يكن لهم مأوى . وهذا يدل عليه ماثبت في الصحيح عن أبى هريرة أنه قال في سياق حديث طويل :
" ... وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد ، إذا أتته صدقة يبعث بها إليهم ، ولم يتناول منها شيئا ـ قلت : يعني النبي صلي الله عليه وسلم ـ وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها .... " الحديث . ( رواه البخاري 11/286 في الرقاق . باب كيف كان عيش النبي وأصحابه ... إلخ ) والترمذى (479 ) ، وغيرهما .
ومن هذا الحديث يتبين أنهم لم يكن لهم مأوى يأوون إليه فلم يكن بد من أن ينزلوا في المسجد ، ويتضح بذلك أنهم كانو مضطرين إلى ذلك ، فلا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث على إباحة مكث الجنب في المسجد ، وأن يعارض به الدليل الدال على المنع لما سبق ذكره بشأن المرأة السوداء ، وكل ما ذكرناه هناك يمكن ذكره هنا بنحوه فلا نعيده . إلا أن هناك شيئا آخر يمكن زيادته وهو الآتي :
إذا افترضنا أن أصحاب الصفة لم يكونوا مضطرين للمبيت في المسجد (وهذا أمر لا سبيل إلى إثباته) فحيث إنه ورد دليل آخر في حق الجنب ، وهو الآية التى سبق ذكرها في أول المبحث ، أعنى قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ....) الآية ـ (وهذا بافتراض ضعف حديث جسرة) . وحيث إن النبي صلي الله عليه وسلم أذن لهم بالمقام في المسجد ، ولم ينههم عن البقاء فيه إن أصابت أحدهم جنابة مع علمه بإمكانية هذا للرجل ، فيكون هذا قرينة دالة على أن النهى الوارد في الآية عن مكث الجنب في المسجد ليس للتحريم ، ولكنه لكراهة التنزيه جمعا بين الدليلين ، إلا أن هذه الكراهة لا تثبت صراحة إلا إذا ثبت أن أحدهم أجنب في المسجد وأطلع النبى على ذلك فأقره على المكث فيه واما مع عدم ثبوت هذا فلا يكون إذنه لهم بالبقاء لهم مع إمكان احتلامهم دالا صراحة على الجواز لأنه لا يمكن القطع باحتلام الرجل ولو مكث شهورا دون احتلام ولا سيما إذا كان على درجة كبيرة من الفاقة والجوع والاجتهاد فى العبادة وهذا أمر معلوم .
وحيث إنه لم يثبت ـ فيما نعلم ـ دليل صريح فى إقرار النبي  لمن أجنب أن يمكث فيه فلا يصلح حديث أصحاب الصفة لأن يستدل به على جواز مكثهم جنبا في المسجد ولو كانوا مضطرين ، فما بالنا بمن كانوا غير مضطرين ؟
وأيضا فإن هناك احتمالا آخر بشأن أصحاب الصفة وهو أنهم ربما كانوا إذا أصابتهم جنابة توضؤوا ثم مكثوا فى المسجد وهذا احتمال قائم لا يمكن إهماله وممايؤيده أنه ورد أن جماعة من الصحابة كانو يفعلون ذلك . فقد قال سعيد بن منصور فى سننه : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن سعد ،
 
عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله  يجلسون فى المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة ...
وقال ابن كثير فى تفسيره (1/502 ) : وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
قلت : كذا قال . وعبد العزيز بن محمد وإن كان من رجال مسلم ، إلا أن فيه ضعفا من قبل حفظه يجعله حسن الحديث فقط (انظر ترجمته فى التهذيب) ومما يويد
هذا أن ابن حجر قال فيه فى التقريب : صدوق ، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ قال النسائى عن عبيد الله العمرى منكر . انتهى .
وفى الإسناد أيضا هشام بن سعد وهو أيضا مختلف فيه ( انظر التهذيب ) وقال فيه فى التقريب : صدوق له أوهام . انتهى .
فيكون هذا الاسناد قريبا من الحسن . ولم يتفرد الدراوردي بروايته عن هشام ، بل تابعه أبو نعيم عند حنبل بن إسحاق صاحب أحمد (انظر نيل الأوطار 1/201 ) باب الرخصة فى اجتياز فى المسجد ..... إلخ . فأصبحت علة هذا السند منحصرة فى هشام بن سعد فيكون إسناده حسنا أو قريبا منه .
فمع قيام الاحتمال السابق الذكر لا يقال : إن قصة أصحاب الصفة تدل على جواز المكث فى المسجد للجنب ، لأنهم ربما كانوا يرون عدم جواز المكث إلا بعد الوضوء فيكون الجواز مفيدا بالوضوء ، وعلى أى حال فأن ثبت هذا عنهم فليس بحجة لأنه فعل بعض الصحابة وقد اختلف الصحابة فى ذلك كما سبق ، وليس فى الباب إجماع على ذلك فيما نعلم . وأيضا فمع ثبوت هذا عنهم لا يكون هذا الفعل منهم حجة إلا إذا ثبت اطلاع النبي  عليه وإقراره .
تاريخ الاضافة: 15/10/2010
طباعة