ما
إن تطل أزمة جديدة برأسها في أفق العلاقات المتبادلة بين أنقرة وعواصم أوروبا -كما يجري الآن- حتى
تُستنفر مفرداتُ التأجيج المعهودة بين الجانبين، فتتراكم الشكوك بشأن فرص القبول بتركيا ضمن الأسرة الأوروبية.
نشب
التوتر الجديد بعد قيام السلطات التركية باحتجاز صحفي ألماني تركي نهاية
فبراير/شباط الماضي، وإثر محاولات حظر تجمعات جماهيرية يحضرها وزراء أتراك لمخاطبة
جالياتهم في ألمانيا والنمسا وهولندا،
ضمن حملة الترويج للنظام الرئاسي المقترح في تركيا والمزمع التصويت عليه فياستفتاء
شعبي يوم 166
أبريل/نيسان القادم.
تبدو
هذه الوقائع كافية للتصعيد اللفظي والإعلامي بين الجانبين، حتى إنّ الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان لم يتردد في
الإلقاء بثقله فيها من على منصات
جماهيرية.
تراكمات
الأزمة وملابساتها
يبدو أنّ /تموز، عندما عمّ الصمت عواصم القارة خلال
حدثٍ هدّد الديمقراطية بالسحق تحت عجلات الدبابات.
ثم
انطلقت من فورها تلك الموجة الناقمة على أردوغان في وسائل الإعلام الأوروبية،
فبلغت حد هوس الأغلفة والعناوين بطرائق مخيفة ولغة مهينة، وتم توظيف حالة
الطوارئلهذا الغرض مع إغفال جسامة واقعة الانقلاب.
"لا
يأتي التوتر الجديد بين تركيا والأوروبيين معزولا عن تراكمات وملابسات، فبعض بلدان
أوروبا منزعجة من تفاعل الجاليات التركية الدافئ مع الحدث السياسي في وطنها الأم،
وتأتي عرقلة الفعاليات الجماهيرية لمخاطبة الأتراك في ألمانيا وغيرها طورا جديداً
في هذا المسعى الذي يستهدف على ما يبدو إضعاف التأثير الرسمي التركي في أوساطهم"
لا
يأتي التوتر الجديد معزولا عن تراكمات وملابسات، فبعض بلدان أوروبا منزعجة من
تفاعل الجاليات التركية الدافئ مع الحدث السياسي في وطنها الأم، وتأتي عرقلة
الفعاليات الجماهيرية لمخاطبة الأتراك في ألمانيا وغيرها طورا جديداً في هذا
المسعى الذي يستهدف على ما يبدو إضعاف التأثير الرسمي التركي في أوساطهم.
امتدت
الانتقادات خلال الصيف الماضي إلى فعاليات جماهيرية مدنية شهدتها بلدان أوروبية
تنديدا بمحاولة الانقلاب العسكري، فقوبلت بانتقادات حادة مثل ما صدر عن وزير
الخارجية النمساويسباستيان
كورتس الذي انتقد
أردوغان وأظهر استياءه من مظاهرات فيينا ضد محاولة الانقلاب، حتى بلغ به الموقف
حد قوله إنّ "من يريد
الانهماك في السياسة الخارجية التركية فالسبيل متاحة له لأن يغادر بلدنا".
وفي
النمسا ذاتها سعت الحكومة -من خلال "قانون الإسلام الجديد" المثير
للجدل- إلى حجب التمويل الخارجي عن المساجد والمؤسسات الإسلامية، وهو ما يمسّ
أساسا بالدور التركي الرسمي من خلال عشرات الأئمة الموظفين والجمعيات والمساجد
الممولة من أنقرة.
ثم
طرأ في فبراير/شباط الماضي اتهام موظفين في جمعيات ألمانية ونمساوية مرتبطة بإدارة
الشؤون الدينية التركية بمزاولة "التجسس" على مواطنين أتراك، وهو ملف
شائك قد يكون له ما بعده.
لا
يخفى أنّ أنقرة تقود منذ سنوات توجهات واضحة نحو توطيد العلاقة مع
"رعاياها" في أوروبا الغربية الذين تعتبرهم مواطنين مغتربين، علاوة على
أنّ من يحتفظون بالجنسية التركية منهم ينطوون على مخزون تصويتي داعم تقليدياً
لأردوغان، وهو ما يكتسب أهمية ترجيحية في سباق الاستفتاء على النظام
الرئاسي.
وقد
باشرت أنقرة في الأعوام الأخيرة سياسات لإنعاش الهوية التركية في صفوف أتراك
الخارج، بما يشمل مثلاً دعم المراكز والجمعيات التي تتولى تعليم اللغة التركية
والقيام بنشاطات ثقافية ذات صلة.
مقابل
ذلك؛ برزت حساسية فائقة في أوساط أوروبية من التجمعات الجماهيرية والانتخابية التي
تقوم بها القيادة التركية في مدن مثل كولنوبرلين وفيينا وغيرها. وقد حشدت بعض التجمعات
من الأعداد والحفاوة ما لا يحلم بمثله قادة تلك الدول أنفسهم.
ورغم
محاولة الخطاب الرسمي التركي أحيانا أن يبدو متوازناً بين الالتزامات نحو الوطن
الأم ونظيرتها نحو الوطن الجديد؛ فإنّ ذلك لا يهدّئ من روع سياسات أوروبية مسكونة
بهاجس "المجتمعات الموازية" وتدفع باتجاه "الاندماج"، وهو
شعار يتسع لتأويلات وتطبيقات متضاربة لا تستثني إرادة الهضم الثقافي والصهر في
بوتقة "الثقافة السائدة".
هكذا . ومن مفارقات المشهد أنّ سلسلة الانتقادات
الموجهة لأنقرة بانتهاك حرية الصحافة وسلامة الصحفيين، لا تنسجم مبدئياً مع حظر
فعاليات جماهيرية تركية في ألمانيا وغيرها على نحو يمسّ بحرية التعبير والتجمع،
وإن كانت الذرائع التبريرية لهذه الخطوات منسوجة بعناية، من قبيل أنها تنطوي على
"تهديد للأمن العام".